لا مكان آمنا للشيعة في باكستان
في الأسبوع قبل الماضي كتبت مقالا بعنوان ''يتحدثون عن سنة إيران.. دون علم'' فكانت ردود أفعال القراء متباينة كما توقعت. فمنهم من أشاد بالمقال لأنه تعرَّف من خلاله على التقسيمات الديموغرافية في إيران، ومنهم من اكتفى بقراءة العنوان فقط ليتهمني بالطائفية - علما بأن المقال كان مقال معلومات وليس مقال رأي - وفريق ثالث طالبني بالكتابة عن مظالم الشيعة في باكستان طالما أني كتبت عن مظالم السنة في إيران، وكأنما نحن إزاء محاصصة صحافية طائفية.
والحقيقة أن من يتابع كتاباتي دون موقف مسبق من شخصي المتواضع يتأكد له أني - بحكم إنسانيتي أولا، ثم بحكم توجهاتي الليبرالية - ضد الظلم والعنف أينما كان، وبحق أية فئة من البشر بغض النظر عن انتماءاتها العرقية أو المذهبية أو الثقافية أو الجهوية. وسبق لي أن كتبت مرارا عن شيعة باكستان وما يتعرضون له من قتل وتفجير لمساجدهم ومواكبهم على أيدي الجماعات الإسلامية المتطرفة، خصوصا في المناسبات الدينية التي يُحرم فيها سفك الدماء. وأخيرا، في 16 شباط (فبراير) الجاري تحديدا، ارتكبت بحقهم جريمة بشعة في مدينة ''كويتا'' (عاصمة إقليم بلوشستان الجنوبي) التي تقطنها أقلية من شيعة الهزارة، حيث وقع تفجير أودى بحياة ما لا يقل عن 89 بريئا، كان من بينهم نساء وأطفال. وكانت المنطقة نفسها قد شهدت حادث تفجير مروع في العاشر من كانون الثاني (يناير) الماضي، راح ضحيته أكثر من 100 قتيل و150 جريحا، علما بأن أكثر من 1200 من الشيعة سقطوا في باكستان قتلا خلال عقد من الزمن، منهم 400 قتيل في العام الماضي وحده.
الحادثتان المأساويتان الأخيرتان (وغيرهما) يعتقد أن وراءهما تنظيم ''جيش جهنغوي'' الإرهابي المحظور، ويمكن تصنيفهما ضمن صور الانفلات والتباغض الطائفي المتزايدة في منطقة الشرق الأوسط. كما أنهما إحدى نتائج السياسات القديمة الفاشلة للحكومات المركزية الباكستانية من زمن الجهاد الأفغاني، حينما تـُرك العنان لتدفق الأسلحة وتشكيل التنظيمات والميليشيات المسلحة التي زرعت ثقافة الكلاشينكوف في المجتمع الباكستاني، وبالتالي دفعت الأقليات الشيعية والمسيحية والسيخية والهندوسية وغيرها إلى العيش في غيتوهات لا يبارحونها خوفا من القتل والاغتصاب والاختطاف. فمثلا الشيعة الهزارة من سكان بلوشستان صاروا اليوم كما السجناء داخل مناطق تجمعهم كبلدتي ''هزارة تاون''، و''ميهرآباد''.
وفي محاولة مستميتة منها لتخفيف تداعيات الحادثتين الأخيرتين اللتين جعلتا شيعة الهزارة تتهم الجيش الباكستاني ومخابراته بالتراخي في حمايتهم وإطفاء جذوة الطائفية المستعرة في البلاد، بل دفعت القوى الليبرالية والعلمانية ومنظمات المجتمع المدني ورموز الصحافة والإعلام والفكر إلى رفع صوتهم وتحميل السلطات الرسمية مسؤولية العنف الطائفي المتصاعد، قامت حكومة رئيس الوزراء راجا برفيز أشرف بإقالة رئيس الحكومة الائتلافية المحلية لإقليم بلوشستان نواب أسلم ريساني، وإدارة الإقليم مباشرة من إسلام آباد. إضافة إلى ذلك بادرت الحكومة إلى القيام بحملة أمنية مكثفة في ضواحي ''كويتا'' للقبض على الجناة فقتلت أربعا منهم.
لكن مثل هذه الاجراءات - طبقا للكثير من المراقبين - من المستبعد أن تضع حدا لما تتعرض له الأقلية الشيعية في البلاد من عنف، خصوصا إذا ما علمنا أن استهدافها ليس مقتصرا على إقليم بلوشستان فقط، وإنما أيضا داخل المدن الكبرى المعروفة ككراتشي روالبندي. أما الأمر الآخر الذي أغاظ الأقلية الشيعية فهو أن حملة الحكومة جاءت متأخرة، بمعنى أنها لم تبدأ إثر حادثة العاشر من شباط (فبراير) الدموية مباشرة، ناهيك عن أنها ليست بمستوى وجدية حملة الجيش الناجحة ضد ''طالبان باكستان'' في عام 2009 في مدينة سوات الواقعة ضمن إقليم خيبر - باشتونشوا المتاخم للحدود مع أفغانستان.
والمعروف أن معظم شيعة باكستان توافدوا إليها في مراحل مختلفة من إقليم الهزارة في أفغانستان منذ عام 1835، أي في زمن الراج البريطاني، وسكن جلهم في إقليم بلوشستان، محتفظين بعاداتهم ولغتهم الدارية القريبة جدا من الفارسية. لكن العادات واللغة ليست هي التي تكشفهم وتميزهم لدى مطارديهم من مسلحي الجماعات المتطرفة، وإنما أشكالهم وسحنتهم التركية المشابهة لسحنة أبناء آسيا الوسطى. حيث دأب أعداؤهم على دخول الأسواق المكتظة والقطارات والحافلات لاصطيادهم بطلقة من مسدس أو بندقية بمجرد النظر إلى وجوههم، ثم الفرار. وفيما خص مجالات العمل التي ينشط فيها الشيعة الهزارة فإن جلها من الأنشطة اليدوية التي لا تتطلب تعليما أو تدريبا عاليا، كالعمل في مناجم الفحم وقطاعي الزراعة والبناء، غير أن هذا لا يعني عدم وجود شخصيات بارزة بينهم! فهناك على سبيل المثال ''ثائرة بتول'' التي كانت أول فتاة تقود مقاتلة حربية من مقاتلات سلاح الجو الباكستاني، والجنرال محمد موسى الذي تولى قيادة أركان الجيش الباكستاني ما بين عامي 1958 و1968، إضافة إلى جملة من الرياضيين الذين أحرزوا الميداليات لباكستان في الدورات الأولمبية في الألعاب التي تتطلب القوة الجسمانية كالمصارعة والملاكمة ورفع الأثقال والتايكوندو.
أما فيما يتعلق بـ ''جيش جهنغوي'' فهو تنظيم ميليشاوي مسلح مصنف على لائحة التنظيمات الإرهابية المحظورة في باكستان، كما أنه مدرج على القائمة الأمريكية للتنظيمات الإرهابية. وكان التنظيم يُعرف عند تأسيسه في عام 1996 بـ ''سباع الصحابة''، لكنه غيّر اسمه في أعقاب حدوث انشقاقات قيادية في صفوفه. وهو لئن تحمل مسؤولية القيام بالعديد من الأعمال الإجرامية مثل محاولة قتل أربعة أمريكيين عاملين في القطاع النفطي الباكستاني في عام 1997، ومحاولة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق نواز شريف في العام نفسه، وقتل 11 فنيا فرنسيا في تفجير لحافلة كانت تقلهم في 2002 في بلوشستان، وتفجير الكنيسة العالمية البروتستانتية في إسلام آباد في عام 2002 حيث قُتل خمسة أشخاص وأصيب 40 آخرون معظمهم من الأجانب، فإن السلطات الرسمية تحمّله أيضا مسؤولية اغتيال رئيسة الوزراء الأسبق بي نظير بوتو و20 من أنصارها في روالبندي في عام 2007، ومسؤولية الهجوم في عام 2009 على المنتخب الوطني السريلانكي للكريكيت. وللتنظيم صلات وروابط فكرية وعملياتية وتنظيمية بأشباهها من التنظيمات الإرهابية العاملة في المنطقة مثل جيش محمد، وجند الله، وحركة طالبان الأفغانية، وطالبان باكستان، وتنظيم القاعدة، وحركة المجاهدين، والحركة الإسلامية الأوزبكية، ولاشكار طيبة وغيرها.