حتمية فشل الصناديق السيادية
إن الفوائض المالية لدى الدول والتي يتم استثمارها في شراء سلسلة "سوبر ماركت"، أو أسهم بنوك وفنادق، أو حتى شراء أسهم في شركات الأزياء والحلي النسائية لا يمكن أن تعود على الدول وشعوبها بفائدة استراتيجية واحدة، وأجد نفسي عاجزا عن فهم هذا السلوك العجيب فعلا لبعض الدول التي تسخّر فوائضها المالية للمضاربات والاستثمار في أسواق الأسهم العالمية التي من أبسط تعاريفها المتفق عليها أنها ذات خطورة عالية، وهذا يشمل المدى القصير والمتوسط والطويل أيضا. إضافة إلى المخاطر السياسية والقانونية وغيرها مما يصعب حصره. إن ظاهرة الصناديق السيادية دليل على عجز الحكومات في استثمار أموالها لتنمية بلدانها وفي النهوض بشعوبها بالشكل الصحيح والعلمي. واستغرب فعلا من مطالبة بعض الاقتصاديين أن يتم تأسيس صندوق سيادي سعودي؛ حتى تتجنب المملكة الهزات الاقتصادية. والحقيقية أن انتهاج سياسة توظيف الفوائض في صناديق لن يسهم إلا في تعميق الآثار السلبية لأي هزة في أسعار النفط. ومن هنا لا بد من الإشادة في الخط السعودي في استثمار الفوائض في تأسيس شركات متخصصة محلية تسهم في التنمية وخلق الوظائف وتعميق القاعدة الاقتصادية لبلادنا.
فالشركات المتخصصة التي تم تأسيسها محليا، كمعادن وسابك والاتصالات السعودية وغيرها كثير، أسهمت مباشرة في الاستغلال الأمثل لكل من الموارد الطبيعية والفوائض المالية وأسست لتنمية مستدامة، وهي صمام الأمان الحقيقي لأي تغير أو تقلب في أسواق النفط. وقد ينتج لدى هذه الشركات فوائض مالية يمكن حينها استخدامها في الاستحواذ أو الاستثمار الخارجي لتضيف في قيمة الشركات المحلية، إما عن طريق الاستفادة في نقل التقنية وتوطينها، أو غيرها من سبل الاستفادة المختلفة. كما أن الصناعات المختلفة التي تصاحب تأسيس مثل هذه الشركات العملاقة تسهم هي الأخرى في تعزيز الاقتصاد المحلي وتنشّط من دوران المال وبناء الوظائف فيه بشكل ممتاز جدا. بعض المتخصصين يرون أن الخوف من خوض تجربة الصناديق السيادية هو المانع الحقيقي لعدم تأسيس الصندوق. وهذا غير صحيح البتة، والصحيح أن المانع الحقيقي هو استشعار المسؤولية تجاه البلاد، والجدية في تأسيس اقتصاد حقيقي من خلال الاستثمار القوي والحقيقي في البنية التحتية الاقتصادية للمملكة، فنحن في المملكة ليس هدفنا (الفرقعات الإعلامية) كما هي بعض الدول التي تعلن بين الحين والآخر تملك صندوقها السيادي في أسهم شركات التجزئة والسوبر ماركت والحلي النسائية، وغيرها من الصفقات العبثية التي لا تفيد سوى السماسرة والبنوك المرتبة لهذه الصفقات.
إننا في المملكة ننتظر مزيدا من الاستثمارات المحلية العملاقة، كالاستثمار في ربط مناطق المملكة ومدنها بشبكة قطارات متطورة. كما أننا ننتظر وبفارغ الصبر تأسيس مدن الصناعات العسكرية التي أعلن عنها أخيرا نائب وزير الدفاع. وهذه المدن ستسهم في تعميق الصناعات الثقيلة لبلادنا، كما ستسهم في زيادة صادراتنا غير النفطية. وننتظر أيضا مزيدا من الاستثمارات في القطاع التعليمي والخدمي وتحلية المياه، وغيرها مما لا غنى عن بلادنا عنه.
إن السبيل الوحيد للاستثمار الأمثل للفوائض المالية بما يحقق الفائدة القصوى للاقتصاد الوطني، وبما ينعكس إيجابيا على البيئة الاستثمارية لبلادنا، وبما يحقق نسب توظيف عالية لشبابنا وبناتنا هو استثمار الفوائض في تأسيس شركات محلية عملاقة، وفي بناء بنية تحتية متقدمة، وفي تعليم شبابنا وتثقيفهم وتهيئتهم لبيئة العمل بشكل منافس. أما استثمار الفوائض المالية في صناديق سيادية فيعرّضها لمخاطر قانونية ومخاطر تقلبات أسواق المال وتقلبات أسعار العملة، كما ويعرّضها لمخاطر سياسية ومخاطر أخرى ليس المجال هنا لتعدادها وشرحها. ولقد أثبت النهج والخط الذي تنتهجه المملكة في تأسيس الشركات العملاقة نجاحه، كما أثبت فائدته على الاقتصاد ككل وعلى توظيف المواطنين والمواطنات على حد سواء. والوسط الاقتصادي في بلادنا ينتظر بفارغ الصبر تأسيس مزيد من الشركات التي لا غنى لنا عنها، كما أننا ننتظر تفاصيل مدن الصناعات العسكرية التي تم الإعلان عنها أخيرا والتي تشكل نقلة جبارة ومتقدمة لاقتصادنا نسعى ونستحق أن نكون عليها. إن سياسة تأسيس صناديق توظيف الفوائض مناسبة لبعض الأفراد ولبعض الشركات، إما أن تنتهجها دولة فذلك أمر مضحك فعلا ولا يدل إلا على عجز في بناء الأوطان.