كيف يبدو الفرع بعد 15 عاماً من عودته إلى الأصل؟

في يوليو 1997 حينما استعادت الصين السيادة على هونج كونج بعد 155 عامًا من الحكم البريطاني الذي حوّلها إلى جنة اقتصادية مزدهرة ينعم شعبها بالرخاء والحريات في ظل حكم القانون، مثـّل الحدث لحظة انتصار لبكين، وفرصة للحزب الشيوعي الحاكم فيها لتأكيد شرعيته من خلال الادعاء بأنه هو وحده الذي استطاع إعادة الفرع إلى الأصل، والقضاء على عار الحقبة الاستعمارية، وتخليص الهونجكونجيين من حكم الرجل الأبيض. وقتها اعتقدت بكين أن صيغة ''دولة واحدة ونظامان'' التي ارتضتها حكومة رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر في عام 1984 حلاً لغلق ملف هونج كونج كافية لكسب ثقة سكان الجزيرة، خصوصًا أن الصيغة كانت تترك لهم إدارة شؤونهم الخاصة كافة (فيما عدا الدفاع والعلاقات الخارجية). وقتها اعتقد الهونجكونجيون أيضًا أن بكين ستلتزم بتعهداتها تجاههم فلن تسلبهم ما اعتادوه في ظل الحكم البريطاني من قيم وحريات وأسلوب حياة.
لكن سرعان ما اتضح خلاف ذلك؛ إذ تدخلت بكين بشكل سافر في اختيار أعضاء المجلس التشريعي المكلف بتسمية رئيس الجهاز التنفيذي، بل فرضت عليهم تسمية شخصية موالية ومدينة لها هي تونج تشي هوا ليكون أول زعيم لهونج كونج بعد عودتها إلى السيادة الصينية. ومع مرور الوقت راحت بكين تكثر من تدخلاتها لجهة فرض القيود الأمنية وتكبيل الحقوق الأساسية والحريات السياسية والدينية والصحافية؛ الأمر الذي تسبب في خروج نحو نصف مليون مواطن إلى الشوارع في يوليو 2003 في أضخم مظاهرة جماهيرية عرفتها الجزيرة في تاريخها؛ احتجاجًا على تلك التدخلات والقيود، وتنديدًا بفضائح الفساد داخل الإدارة المدعومة من بكين والتي تجسدت في فشلها في منع تسرب وباء سارس المعدي من البر الصيني إلى هونج كونج، وطلبًا لبرلمان منتخب بالكامل من قِبل الشعب وانتخابات حرة لاختيار زعيم تنفيذي للجزيرة.
ولأن بكين لم تقرأ تلك الاحتجاجات ودواعيها قراءة واعية، وسارعت إلى وصف المشاركين فيها بأعداء الأمة الصينية، وحصرت الوطنية الصينية في مواطنيها من البر الصيني، فإن نقمة الهونجكونجيين على بكين ازدادت، في صورة مظاهرات جديدة، ومقالات حادة تنتقدها، ودعم معنوي للصينيين المنشقين والحركات المتمردة في التيبت وتركستان الشرقية، بل القيام سنويًا بإحياء ذكرى من سقطوا قتلى على يد الجيش الأحمر في مظاهرات ساحة تيان إنمين في عام 1989.
واليوم بعد مرور أكثر من 15 عامًا على عودة الفرع الهونجكونجي إلى الأصل الصيني نرى توجهًا متزايدًا نحو تعلق الهونجكونجيين بهويتهم المنفصلة، مع ابتعادهم أكثر فأكثر عن أشقائهم في البر الصيني ممن يصفونهم في العادة بغير المتحضرين أو عديمي الذوق لجهة ما يختارونه من ملابس أو ما يأكلونه من أطعمة، أو ما يستمعون إليه من أغان. بل وصل الأمر بالهونجكونجيين إلى السخرية من لغة أشقائهم الصينيين الوافدين إلى الجزيرة، أي اللغة الماندرينية المختلفة عن اللغة الكانتونية الشائعة في هونج كونج، والسخرية من عدم نطقهم الإنجليزية بطريقة سليمة، وتقريعهم بسبب مخالفات بسيطة، مثل أكل وجبات ''النودل'' في قطارات المترو، على نحو ما وثقه شريط مصور في موقع ''اليوتيوب''.
ولعل الزعيم الصيني المنتهية ولايته هو جينتاو لاحظ شيئًا من هذا خلال زيارته الأخيرة للجزيرة في تموز (يوليو) الماضي، وهي الزيارة التي اختلفت كثيرًا عن زيارته الأولى لها في عام 2007. ففي الزيارة الأولى كان الهونجكونجيون – رغم ارتيابهم في نوايا بكين – يترقبون الخير القادم من البر الصيني مع استضافة الصين دورة 2008 الأولمبية، وتصاعد معدلات نموها الاقتصادي، وتدفق الاستثمارات الأجنبية الضخمة عليها. أما الزيارة الأخيرة فقد خيّم عليها عدم الثقة بالحكومة الصينية، بل حتى عدم الثقة بمن نصبته أخيرًا رئيسًا جديدًا للجهاز التنفيذي في الجزيرة ألا وهو ليون تشون ينج.
وليس أدل على صحة ما نقول من المظاهرات التي اجتاحت الجزيرة أخيرًا للتنديد بخطط بكين لإجبار المدارس الهونجكونجية على تدريس مقررات التربية الوطنية الصينية، وخطط أخرى أعدتها حول لم شمل العائلات التي انفصل بعضها عن بعض من تلك التي يتناثر أفرادها ما بين أراضي هونج كونج والأقاليم الصينية، خصوصًا إقليم جوانجزو. حيث جاب المتظاهرون الشوارع وهم يحملون أعلام فترة الاحتلال التي تحمل الشعار البريطاني، ولافتات تعرب عن كراهيتهم للقادمين من البر الصيني وتطالبهم بالعودة من حيث أتوا. هذا إضافة إلى المشاجرات التي عادة ما تحدث بين أبناء الجزيرة والمتسكعين ومثيري المشكلات الصينيين القادمين من الوطن الأم، على نحو ما حدث في أيلول (سبتمبر) الماضي في موقع للتخييم، وهو ما دعا السلطات الهونجكونجية إلى اتخاذ إجراءات سريعة للحد من قدوم تجار اليوم الواحد من البر الصيني، والمقصود بهؤلاء أولئك الذين يدخلون هونج كونج ليوم أو أقل من أجل شراء البضائع الهونجكونجية لبيعها داخل الصين، حيث تجد تفضيلاً بسبب جودتها مقارنة بالبضائع الصينية، خصوصًا حليب الأطفال وأطعمتهم وأدويتهم التي تفضل الأمهات الصينيات شراء المصنوع منها في هونج كونج اعتقادًا منهن أن شبيهاتها الصينية مزيفة وخطرة على الصحة.
وتشبه تلك الإجراءات ما اتخذته السلطات للحد من تدفق السيدات الصينيات الحوامل على هونج كونج للولادة في مستشفيات الأخيرة الأفضل لجهة التجهيز والمعدات والنظافة والعناية. والمعلوم أن 28 مليون صيني، أي أربعة أضعاف تعداد سكان هونج كونج عبروا الحدود من البر إلى الجزيرة خلال عام 2011؛ الأمر الذي تسبب في ضغوط اقتصادية وديموغرافية ذات أبعاد اجتماعية خطيرة على هونج كونج، مثلما تسبب في خسائر اقتصادية للسوق المحلية في البر الصيني.
ويتوقع المراقبون أن تزداد نزعة العداء في هونج كونج للصين مع تراجع مؤشرات نمو الاقتصاد الصيني ذي التأثير السلبي في الأحوال الاقتصادية والمعيشية في الجزيرة، وتمسك بكين بسياسة وضع كل مقدرات الجزيرة الاقتصادية في أيدي حفنة من تايكونات المال والأعمال المؤيدين والمخلصين لها، وإصرارها على سياساتها المتشددة ضد الانفتاح السياسي وحقوق الإنسان. بل قد يحدث ما لا يحمد عقباه إذا ما أخلت القيادة الصينية الجديدة بالوعود التي قطعتها القيادة السابقة على نفسها (لكن دون ضمانات واضحة) بمنح أبناء هونج كونج حق اختيار زعيمهم التنفيذي عبر الاقتراع الحر المباشر بحلول عام 2017. ويبني هؤلاء المراقبون تشاؤمهم على معطيات مثل التململ الواضح في صفوف أغلبية الهونجكونجيين بسبب الارتفاعات المتصاعدة في أسعار المساكن (الأعلى في عموم آسيا) الناجمة عن المضاربات التي يقوم بها الأثرياء القادمون من البر الصيني، والتفاوت المذهل ما بين دخول الأغنياء والفقراء (أكبر من مثيله في بريطانيا والولايات المتحدة) والذي اضمحلت معه الطبقة الوسطى، وزيادة معدلات تلوث الهواء، والتراجع الخطير في وفورات الميزانية التي كانت يومًا ما تبلغ 662 مليار دولار هونج كونجي (نحو 85 مليار دولار أمريكي)، علاوة على نسب التضخم التي ارتفعت من 1.7 في عام 2010 إلى 5.3 في عام 2011.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي