حضور السياسة في قمة الاقتصاد والتنمية
تستضيف الرياض الدورة الثالثة لـ ''مؤتمر القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية'' في مرحلة حساسة وخطيرة يمر بها العالم العربي، حيث يقف على مفترق طرق مصيري، وتحدد خياراته مستقبل التعاون العربي، فالظروف الدولية تشهد أزمات اقتصادية وضبابية في توجهات السياسة الدولية، ودول عربية عديدة تعاني عدم الاستقرار السياسي وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتحيق بالعالم العربي ومصالحه التحديات والأطماع الدولية. ولهذه القمة أهداف نبيلة بالغة الأهمية، واستمرارها في ذاته يوجِد حراكاً في اتجاهات بناءة، ويبعث أملا في تجديد نشاط العمل العربي المشترك.
ولا شك في أن انعقاد القمة في الرياض يعطيها دفعة قوية ويعزز فرص نجاح مشاريعها وتحقيق أهدافها، وذلك لما تتمتع به المملكة -بفضل الله وتوفيقه- من دور قيادي مشهود ومكانة سياسية واقتصادية مرموقة وقوية، فنهجها السياسي المتوازن أكسبها الاحترام والنفوذ الإقليمي والدولي، وهي سباقة في جهود التعاون ودعم المصالح العربية والإسلامية في شتى المجالات، وقوّتها الاقتصادية كبيرة ومعلومة، فاقتصادها وسوقها لهما النصيب الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتملك قطاعا خاصا حيويا بإمكانات عالية، وتمثل ٢٥ في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي العربي، وتُدير ٢٥ في المائة من احتياط النفط العالمي، وتلعب دوراً قياديا في منظمة أوبك والمؤسسات الاقتصادية الدولية، وتسهم بفاعلية في استقرار سوق الطاقة والاقتصاد العالمي، وانعكس كل ذلك في ضمها لعضوية ''مجموعة العشرين'' التي تمثل أكبر اقتصادات العالم.
ومما يدعو للتفاؤل، تميز جدول أعمال القمة المتوقع بتركيزه على استحداث واستكمال مشاريع نوعية محددة، في مجالات سكك الحديد والنقل البحري والكهرباء والاتصالات وخطوط الغاز والأمن الغذائي والطاقة الجديدة والصناعات الصغيرة والمتوسطة والتجارة والاستثمارات البينية وتفعيل الاتحاد الجمركي في ٢٠١٥. وهكذا مشاريع ممكنة التحقيق وذات فوائد ملموسة، والنجاح فيها يضع أسس بنية متينة تعزز فرص تحقيق المزيد من التعاون والتكامل العربي.
وآمل من القائمين على المؤتمر اعتبار ثلاثة أمور أراها جديرة بالاهتمام في سبيل تحقيق الأهداف المتوخاة: الأمر الأول، هو تشابه التحديات التي تواجه الدول والمجتمعات العربية، وذلك رغم اختلاف ظروفها وتفاوت إمكاناتها، مثل توفير فرص العمل والإسكان وتحقيق نمو اقتصادي مطرد مع توزيع منافعه بشكل عادل وتحقيق تنمية مستدامة، وهذا يتطلب تبني معالجة وحلول (سواء سياسات أو مشاريع) تكاملية تعمق ترابط المصالح العربية، وتجنب ما يكرس الازدواجية والتنافس ويدفع باتجاه تعارض المصالح. كما يتطلب هذا الأمر أيضاً أن ينظر للمعالجة والحلول كهدف استراتيجي مصيري يعتمد عليه المستقبل، ولا يُترك مجال القيادة فيها للمصالح الخاصة والمتقلبة.
والأمر الثاني، هو ضرورة أن يتحرر منهج التعامل التنموي الاقتصادي والاجتماعي، ولا يختزل في الإطار الضيق للفكر الاقتصادي الليبرالي واعتباراته الربحية البحتة التي تخدم مصالح القلة، خاصة أن هذا النهج جرّب وأدى إلى إخفافات وإشكالات تنموية لعبت دوراً رئيساً في عدم الاستقرار الذي تشهده دول عربية عديدة، بل يكون المنهج السائد هو فكر الاقتصاد السياسي الشامل ذو البعد الاجتماعي التنموي، ليوجه، في حده الأدنى، إطار التعامل الحكومي ومسار توظيف الاستثمارات الخاصة.
والأمر الثالث، هو ضرورة أن يحكم مبدأ ''الشفافية'' أعمال ومشاريع هذا المؤتمر، والحرص الشديد على المصارحة وتجنب رفع سقف التوقعات بما يخالف الواقع والإمكانات، فالحكمة وطبيعة المرحلة تحتم ذلك، والأجيال الجديدة تطلبه، وهو الأجدى لكسب تفهمها واحترامها.
وختاماً: رغم أن الاقتصاد والتنمية هما الحاضران في هذا المؤتمر، إلا أن السياسة لا تغيب، فنجاح التعاون الاقتصادي مرتهن بحضور الاستقرار السياسي وإعادة بناء جسور الثقة بين الأنظمة العربية، وبحكمة القيادات لتحقيق ذلك، وهي مهمة ومسؤولية جماعية، والمملكة دوماً مبادرة وواعية بمسؤولياتها القيادية في هذا الإطار، ويحتاج الوضع إلى إخلاص النية وتكاتف الجهود وتغليب المصالح المشتركة، والعرب ومحبّوهم يترقبون القمة، ويتشاركون التمنيات الخالصة لها بالنجاح والخروج بنتائج ملموسة ومثمرة للصالح العربي.