بيننا جينات آدم

يقول: "كنت أقود سيارتي بصحبة العائلة وفجأة رمت علي ابنتي ذات السنوات الخمس هذا السؤال: بابا، معقول آدم هو أبو كل الناس؟ يعني السعوديين والأمريكيين والهنود وكل الناس؟ يعني كلنا إخوان؟ التفت إليها بتعجب: ما الذي أنبت في عقل هذه الصغيرة الجميلة هذه الفكرة الآن؟ سرحت في تأمل عميق لم أفق منه إلا عند قول تلك الغندورة: بابا إنت فين رحت؟"
فعلا، يا الله، حقيقة بسيطة بدهية يعرفها كل أحد، ولكن هل تأملناها بعمقها الحقيقي. نحن من أب واحد وأم واحدة، في كل واحد منا جينات أبينا آدم عليه السلام، خليتنا الأصلية واحدة، كلنا!
إننا نشترك في هذه الأرض التي تضمنا أحياء وأمواتا، نتشابه كثيرا في أشكالنا وأجسامنا التي لا تختلف إلا في التفاصيل، نتشارك في اتفاقنا على الكثير من المسلمات، نتفق في الكثير من حاجاتنا ورغباتنا وفطرتنا. ولكننا في المقابل، نختلف كثيرا، نختلف في أدياننا وتفكيرنا وتوجهاتنا، نختلف في عادات حياتنا ونمط معيشتنا، نختلف في ألواننا وأشكالنا ولغاتنا. نحن نشبه بعضنا حتى كأننا شيء واحد ونختلف عن بعضنا حتى وكأننا كائنات مختلفة!
والناس في تجمعاتهم البشرية، من الأسرة الصغيرة إلى الدولة الكبيرة، لا بد أن يجتمعوا على هدف عام أو وجهة محددة، هذه الوجهة الواحدة يسعى إليها الجميع ويسيرون باتجاهها، معظم أفكارهم وأنشطتهم ووقتهم متوجه لخدمة هذا المشروع الكبير الذي اتفقوا عليه. غير أنهم في طريق تحقيق هذه الرؤية يختلفون في طرق الوصول إليها. يختلفون في طرق التفكير والمزاجات وطريقة العمل والتفاعل مع الأحداث. هذا التنوع والتدافع الفكري والحركي هو من سنن الله في هذا الكون، وهو شيء ليس بوسع أحد أن يلغيه مهما حاول أن يجمع بين القلوب ويوحد الأفكار: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"، الاختلاف والتنوع إذن من حكمة الخلق!
وبالتالي، لا يمكن أن نتصور جماعة أو مؤسسة منتجة يتفق فيها الجميع على كل شيء ويكون كل واحد منهم نسخة كربونية من الآخر، وبالمقابل، لا يمكن أن نتصور تجمعا بشريا يسير كل فرد فيه باتجاه مخالف للآخر ومضاد له، تتقدم خطوة في اتجاه ثم تعود خطوة في اتجاه آخر، جماعة تتصارع فيها القوى في اتجاهات متناقضة تماما.
وإذن، فالخطوة الأولى في بناء رؤية حقيقية هي تحديد الهدف المشترك الذي يجمع المجموعة والذي يتفقون عليه في عقد اجتماعي واضح. وفي الطريق إلى هذا الهدف الواحد الكبير لتختلف الطرق، وسرعات السير، وطريقة الوصول، ووسيلة الركوب، لتختلف الألوان والمزاجات والعقليات، لتتنافس المدارس والتيارات والتوجهات وليصل كل منهم بطريقته. لنحتفل بهذا التنوع، لنحرص عليه، لنعتبره قوة وزخما يصب في مصلحة المجموعة. وستبقى أهم مهمات القائد بعد ذلك أن يرعى هذه الرؤية المشتركة وينميها. يتأكد أن أفراد المجموعة بتنوعهم واختلافهم تصب جهودهم كلها في اتجاه يدعم الرؤية الواحدة ويسير باتجاهها، ويحاول أن يجمع مصالح أفراد الجماعة وأهواءهم لتتوافق (ليس بالضرورة تتطابق) مع رؤية الجماعة والمؤسسة.
قبل أيام صدح في سيارتي صوت عبد الباسط - رحمه الله - بآية هزتني: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون"، تدبرت فإذا هي قاعدة ربانية عظيمة في الحوار الذي يبني جسورا حقيقية بين الناس، هو أولا بـ"التي هي أحسن" في لغته وطريقته وأدبه، ليس حسنا فقط، بل "التي هي أحسن"، وهو ثانيا يبدأ بالتركيز على "المشترك والمتفق عليه" البدء منه والبناء عليه، ويؤخر المختلف عليه لاحقا. هذه القاعدة من أهم قواعد المفاوضات والحوارات كما قرر ذلك علماء هذه الفنون.
عندما تلتقي المصلحة الشخصية مع المصلحة العامة، وتعيش مجموعة من البشر معا لهدف مشترك يوظفون له كل طاقاتهم ويستثمرون فيه تنوعهم واختلافاتهم في جو من الثقة والإبداع، راقب بدقة، فإن تغييرا حقيقيا على وشك الحدوث. وعندما نبحث عن جينات أبينا آدم التي تجمعنا ونبني عليها مشروعا يجمعنا نحتفل فيه باختلافنا وتنوعنا، أطرق سمعك، فإن حكاية جميلة على وشك أن تحكى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي