إعلام الكآبة والتخلف
تناهبت الفضائيات في الأسبوع المنصرم تصريحات الشيخين مرجان والبدري في مصر عن تحطيم الآثار المصرية من أهرامات ومومياوات فرعونية وتماثيل بحجة أنها أوثان وأصنام وصار الشيخان بطلين يملآن الفضائيات ضيوفا عليها بكلام مجنون شاذ يثير البلبلة وينحاز للتخلف.
هذا المنحى في اصطياد الإثارة الرخيصة بات سمة الإعلام المعاصر، خصوصاً إعلامنا العربي، فأي قيمة لمثل هذا الخبر سوى الهرولة لذهنية العصور الوسطى وإمعان في تجهيل أمة عربية تنهشها الأمية وغارقة في مستنقع التخلف لم تستطع بعد التصالح مع العلم والمعرفة وحداثة العصر بقدر هوسها بالماضي والدجل والخرافة والشعوذة؟!
لا يقف فعل هذا الإعلام عند مثل هكذا خبر، بل هو مسكون بإثارة سقطات البشر وعثراتهم، مغرم بشنيع الآراء من نعرات عصبية حزبية أو قبلية أو عرقية أو فئوية وإثارة الكراهية والعداوة بين الشعوب وتعميق الشقاق بين الرجل والمرأة.. ناهيك عن اللهاث إلى إشاعة الكآبة والقنوط بمشاهد وأخبار القتل والتفجير والاغتيال والتدمير والكوارث التي أصبحت إدمانا يقتات عليه ليل نهار.
إن نعمة التقنية الإعلامية تحولت إلى نقمة وصرنا عالما سرياليا نجلس - يا للمفارقة!!- على أرائكنا الوثيرة نتلذذ بنكهة كوب القهوة وطعم كأس العصير أو نتحلق أمام أطباق مائدتنا الشهية والدم يقطر من الشاشات وصراخ المعذبين يذيب كبد الحجر، ونحن نذوب ولا نذوب فقد كرس فينا إعلام الكآبة والتخلف الاعتياد حتى على الجحيم!
من جانب آخر.. ثابر هذا الإعلام على ترسيخ نماذج للبطولة والنجومية في الغناء والرقص والرياضة وصرعات الجمال وما شابه ذلك وحصر التميز والشهرة فيها حتى باتت أجيالنا الطالعة والشابة مسكونة بحلم أن تكون هذا النجم أو تلك النجمة في إزاحة مستدامة للعلم والعمل والثقافة والقيم العليا لإنسانية الإنسان ومواطنيته.. تتنافس فيها الفضائيات كما لو أنها قد وقّعت فيما بينها مذكرة تفاهم أو ميثاقا لتسخير برامجها في التفاهة والسفه!
وحين النظر إلى برامجها الحوارية فأنت أمام شخصيات بعينها تعاد استضافتها على هذه الفضائية أو تلك وبما يوحي بأن الأمة عقيمة لم يفلح فيها إلا هؤلاء الذين يجتر معظمهم الكلمات ذاتها مع خاصية تلوينها بما يرضي ميول الفضائية، وإذا ما أخلفت فضائية هذه العادة أتت بشخص من المجهول، مبررات استضافته أنه مغرم بالهجاء وسلاطة اللسان وتسويق الأباطيل ولعب دور محامي الشيطان.. ناهيك عن مقدمي برامج يتهافتون على الثرثرة والتعالم بكل شيء مع الخفة في مقاطعة المتحدث قبل أن يكمل جملته بمعزوفة (دهمنا الوقت) وبما يؤكد أن معظم هذه البرامج ردح بردح وشجارات دون قطرة من عرق الخجل!
إنه إعلام مولع بالشاذ والموجع أو المتخلف.. كأنما لا وجود لرجال ونساء في هذا العالم مكبين على بحوثهم ودراساتهم أو في معاملهم ومختبراتهم لصناعة التقدم والسعادة وإنه خال من أخبار سارة عن دواء أو اختراع أو ابتكار أو اكتشاف أو عمل إنساني يبلسم الجراح ويمسح الكدر أو جهـود خيرية لصالح الصحة والغوث والرقي وإشاعة البهجة والسلام النفسي.. أو إنه ما من نشاط ماتع مثير محفز في صناعة الترفيه والتسلية والمرح أو في توسيع نطاق المحبة والتواصل الإنساني.. لم ير هذا الإعلام الدنيا سوى أنها محجر للعنة والمصيبة أو مرتع للتفاهة والسخف والسفه .. كما لو أنه موكل بها ناطقا رسميا لها؟!
قد يرى البعض أنني بالغت.. حسنا.. ربما.. لكن محاولة لتقليب القنوات بالريموت كنترول كفيلة بأن تملأ المشاهد بشحنات من الفزع أو تصيبه بالغثيان!