أكبر من أن تُدار

إذا تابعنا المناقشة الدائرة حول ما إذا أصبحت المؤسسات المالية الأكبر في الولايات المتحدة أكبر مما ينبغي، فسوف نلحظ تغيرا هائلا في الرأي. فقبل عامين، وأثناء المناقشة حول تشريع دود - فرانك للإصلاح المالي، كان قِلة من الناس يتصورون أن البنوك العالمية العملاقة تمثل مشكلة ملحة. حتى إن بعض الأعضاء البارزين في مجلس الشيوخ اقترحوا أن المصارف الأوروبية البالغة الضخامة لا بد أن تكون قدوة للولايات المتحدة.
في كل الأحوال، لا تستطيع الحكومة، كما يزعم الرؤساء التنفيذيون لأكبر المصارف، أن تفرض سقفا على حجم أصول هذه المصارف، لأن هذا يعني تقويض إنتاجية الاقتصاد الأمريكي وقدرته على المنافسة. وما زلنا نستمع إلى مثل هذه الحجج حتى الآن ــ ولكن فقط من جانب العاملين لدى المصارف العالمية العملاقة، بما في ذلك المحامون، والمستشارون، وخبراء الاقتصاد الطيعون.
فقد تحول الجميع باستثناء هؤلاء إلى وجهة النظر القائلة: إن هذه الكيانات المالية العملاقة أصبحت أضخم مما ينبغي وأكثر تعقيدا من أن تدار بسلاسة ــ علاوة على ما يترتب على هذا من عواقب سلبية يتحملها الاقتصاد بالكامل. وفي كل مرة يضطر الرئيس التنفيذي لأحد المصارف العملاقة إلى الاستقالة، تتصاعد الأدلة التي تشير إلى أن هذه المنظمات أصبح من المستحيل إدارتها بطريقة معقولة تعمل على توليد قيمة مستدامة لصالح المساهمين وتبقي دافعي الضرائب بعيدا عن الضرر.
ويفصل لنا ويلبر روس، المستثمر الأسطوري الذي يتمتع بخبرة عظيمة في قطاع الخدمات المالية، بشكل مبسط وجهة نظر القطاع الخاص المطلع من الداخل بشأن هذه القضية. فمؤخرا قال في حديث مع قناة "سي إن بي سي": "أظن أنه كان خطأ جوهريا أن تتطور المصارف إلى هذا الحد من التعقيد الذي بلغته، وأعتقد أن المشكلة الأكبر من مشكلة الحجم تتلخص في مسألة التعقيد. ولعل المصارف أصبحت أكثر تعقيدا من أن نتمكن من إدارتها وليس فقط أكبر من أن نتمكن من إدارتها.
في أعقاب استقالة فيكرام بانديت من منصب الرئيس التنفيذي لـ "سيتي جروب"، أشار جون جابر في صحيفة "فايننشيال تايمز" إلى أن: "أسهم (سيتي) يتم تداولها بأقل من ثلث المضاعِف لكي تسجل قيمة و(يلز فارجو)"، لأن الأخير "بنك ثابت ويمكن التنبؤ بأوضاعه"، في حين أصبح "سيتي جروب" أكثر تعقيدا مما ينبغي. وينقل جابر أيضا مقولة مايك مايو، أحد المحللين البارزين في القطاع المصرفي: "إن (سيتي) أكبر من أن يسمح له بالإفلاس، وأكبر من أن يمكن تنظيمه، وأكبر من أن يدار، وكانت تصرفاته توحي بأنه أكبر من أن يبالي". وحتى "ساندي ويل"، الذي أسس "سيتي" كبنك عملاق، انقلب على صنيعته.
ومن ناحية أخرى، بدأ كبار القائمين على التنظيم في التوضيح ــ بشيء من الدقة ــ ماذا يتعين علينا أن نفعل. إن أكبر بنوكنا لا بد أن تصبح أكثر بساطة. ويدعو توم هونيج، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي سابقا في "كانساس سيتي" الذي يشغل الآن منصبا رسميا رفيعا في مؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية، يدعو إلى الفصل بين الأنشطة التجارية وبين التداول في الأوراق المالية في المصارف الكبرى. فالثقافتان غير متناغمتين كما يزعم، ومن الصعب إلى حد كبير إدارة الأوراق المالية المعقدة.
والواقع أن هونيج وريتشارد فيشر، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في دالاس، كانا يتزعمان الهجوم في هذه القضية داخل النظام الاحتياطي الفيدرالي. ويؤكد كلاهما أن وصف "أكثر تعقيدا من أن يدار بسهولة" يكاد يكون مرادفا لوصف "أكبر من أن يمكن إدارته"، على الأقل داخل النظام المصرفي الأمريكي اليوم.
ولا يرى تارولو في الحد من حجم المصارف حلا ناجعا ــ فقد أوضح في خطابه أن أي نظام مالي عُرضة للعديد من المخاطر المحتملة. ولكن باستخدام لغة محافظي البنوك المركزية المختلفة قليلا في أغلب الأحيان، نقل تارولو رسالة واضحة: لقد فشلت نوبة الهوس بمسألة الحجم.
والواقع أننا على نطاق أوسع فقدنا بصيرتنا فيما يتصل بوظيفة العمل المصرفي. فالمصارف تلعب دورا أساسيا في كل الاقتصادات الحديثة، ولكن هذا الدور لا يعني الإفراط في خوض المجازفات، وإرغام المجتمع بالكامل على تغطية خسائر الجانب السلبي.
ومرة أخرى أصاب روس هذا الأسبوع عندما قال: "أعتقد أن الغرض الحقيقي من المصارف والسبب الحقيقي وراء احتياجنا إليها في هذا البلد يتلخص في تقديم القروض، خاصة للشركات الصغيرة والأفراد. وأظن أن هذا هو الجزء الصعب في الأمر".
وتابع: "إن أسواق المال لدينا متطورة وعميقة بالقدر الكافي، حتى إن أغلب الشركات الكبيرة لديها وفرة من الطرق البديلة لإيجاد رأس المال. أما الشركات الأصغر حجما والأفراد فليس لديهم حق خيار الأسواق العامة. وهم الأطراف الأكثر احتياجا إلى المصارف. وأعتقد أنهم ضلوا الطريق بعض الشيء نحو تحقيق هذا الغرض".
إن هونيج وفيشر يتمتعان ببصيرة سليمة. وتارولو يسير على المسار الصحيح. وروس وغيره كثيرون في القطاع الخاص يفهمون تماما ماذا ينبغي عليهم أن يفعلوا. وهؤلاء الذين يعارضون إصلاحاتهم المقترحة هم في أغلب الظن من المطلعين من داخل المطبخ ــ أشخاص تلقوا مكافآت وتعويضات من البنوك الكبرى على مدى العام الماضي أو العامين الماضيين.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي