هل للسعادة والنجاح «علم»؟

''إنني كالشخص الذي لا يعرف شيئا أبدا عن لعبة الشطرنج، ثم يتاح له أن يشاهد اللعبة ويراقب اللاعبين دقائق من كل يوم، وعليه بعد سنوات أن يفهم اللعبة وقوانينها''.
بهذا يصف العالم الفيزيائي النوبلي الشهير ريتشارد فاينمن مهمته في فهم العالم. خلق الله هذا الكون المدهش ويسيره وفق قوانين وسنن دقيقة ومنضبطة، ومهمة العالم إذن أن يحاول، على الأقل أن يحاول، أن يفهم هذه القوانين حتى يستعملها الإنسان في صالحه. هذه باختصار مهمة العالم الحقيقي، ويا لها من مهمة!
من أوسع شيء، من علوم الكون الفسيح المهيب، بمجراته وشموسه وكواكبه والقوانين الدقيقة التي تحكمه.
إلى أصغر شيء من علوم الذرة ومكنوناتها والتي تقلد المجرات في دورانها أو تقلدها المجرات! وبين المجرات الكبيرة والذرة الصغيرة علوم الأرض والجغرافيا والمناخ وغيرها.
وعلى الأرض علوم كثيرة تتعلق بالإنسان والحيوان والنبات. علوم الحياة وما في الخلية من أسرار لا تبوح بها إلا بمهر باهظ. داخل هذه الخلية تنشأ الحياة كلها، ويسكن الموت، تكمن الصحة ويبدأ المرض، وبين هذا وذاك عقود من البحث العلمي الذي أفنيت فيه الأعمار والدهور. داخل النواة في الخلية، في كل خلية من الجسم، تتربع الجينات، كوشم اليد أو بصمة الإصبع، تاريخك من آدم إلى اليوم، ومستقبلك إلى أن توسد قبرك، مكتوب فيها بدقة معجزة، ولكن من يفك الطلاسم ويقرأ ''الفنجان''؟
وحول خليفة الله في الأرض، الإنسان، ومناشطه فيها وسعيه عليها علوم كثيرة كالتاريخ والاجتماع واللغة والسياسة، وفنون كثيرة، وشؤون وشجون.
ومع تطور الإنسان وعمارته للأرض، أضاف علوما أخرى مثل الهندسة وتطبيقاتها، وعلوم الحاسب والإلكترونيات، وعلوم النانو وغيرها مما لم نذق بعد إلا المقبلات منها.
ولكن هذه العلوم كلها، دقيقها وجليلها، لا تكفي الإنسان لأن يعيش حياة هانئة سعيدة وأن يحقق مراد الله من خلافته له على الأرض، والتاريخ شاهد، فاحتاج الناس إلى نور الوحي والعلوم المتعلقة به لتحدد لهم المسار وترشدهم إلى الطريق وتبين لهم علامات الهداية، ولذلك فهي أشرف العلوم وأعظمها.
هو بحر واسع إذن، يدور كله حول فهم وتحليل الظواهر الطبيعية والكونية والإنسانية ومحاولة تسخيرها لمصلحة الإنسان، هو محاولة الإنسان لفهم الحياة من حوله وتسخيرها له.
ولكن، ماذا عن محاولة فهم الإنسان لنفسه؟ على الرغم من التطور الهائل في الكثير من هذه العلوم تبقى العلوم المتعلقة بعلم نفس النجاح والسعادة والإنجاز الشخصي والجماعي وإدارة الذات والمؤسسات والجماعات متأخرة نوعا ما مقارنة بالعلوم الأخرى. لا توجد مثلا تعريفات واضحة للنجاح والسعادة والإنجاز والفاعلية. كما تندر جدا الدراسات العلمية الموثقة المبنية على منهج علمي رصين حول هذه الموضوعات، فتجد أكثر ما كتب في هذا الموضوع إما تجارب شخصية وملاحظات عامة استنتجها وطورها هواة في التنمية البشرية وتطوير الذات كثير منها مفيد ومجرب وبعضها ليس إلا هرطقات. بعضها الآخر مبني على ملاحظات غير منهجية للناجحين أو الفعالين أو استبيانات غير دقيقة. أما المتخصصون فمعظم إنتاجهم إما دراسات نفسية نظرية أو بحوث إدارية معقدة يصعب أن تقدم في منهج عملي يفيد الناس. غير أن ثمة صحوة قد بدأت ويوشك أن تنتشر للحاق بالركب وإدخال هذه العلوم ضمن دائرة العلم الرصين وإخضاعها للتجربة الدقيقة والمنهج العلمي ''على صعوبة ذلك'' بعيدا الدجل حينا والتسطيح أحيانا. وتبقى مهمة المفكرين والمثقفين والكتاب والمعلمين والمربين هو تقريب هذه العلوم للناس وتقديمها لهم بقوالب محفزة مشوقة مثل دورهم في بقية العلوم.
إن دراسة الإنسان في تفاعله مع ما حوله وسعيه في سبيل حياة متوازنة سعيدة لحقيق أهدافه والوصول إلى النجاح الشخصي والجماعي ربما توصف بثمرة الكثير من العلوم. فالعلم أولا وآخرا هدفه خدمة الإنسان وتقريبه من السعادة وتمكينه من أداء مهمته في الأرض.
قبل أن نفهم الأشياء من حولنا لا بد لما أن نفهم أنفسنا أولا، أليس كذلك؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي