الصين والعودة إلى التوازن

تدعو الخطة الخمسية الثانية عشرة في الصين إلى تحويل النموذج الاقتصادي الذي تتبناه البلاد من النمو القائم على التصدير باتجاه قدر أعظم من الاعتماد على الطلب المحلي، وبخاصة الاستهلاك المنزلي. ومنذ العمل بهذه الخطة، بدأ فائض الحساب الجاري لدى الصين كحصة من الناتج المحلي الإجمالي في الهبوط حقا. ولكن هل يعني هذا أن عملية التعديل والتكيف في الصين تسير على الطريق الصحيح؟
وفقاً لصندوق النقد الدولي، فإن انخفاض نسبة الفائض في الحساب الجاري إلى الناتج المحلي الإجمالي في الصين كان إلى حد كبير ناجماً عن مستوى بالغ الارتفاع من الاستثمار، وضعف البيئة العالمية، وارتفاع أسعار الواردات السلعية الذي فاق ارتفاع أسعار السلع الصينية المصنعة. وبالتالي فإن انخفاض نسبة الفوائض الخارجية الصينية إلى الناتج المحلي الإجمالي لا يمثل ''إعادة التوازن'' إلى الاقتصاد؛ بل إن الأمر على العكس من ذلك تماما، حيث يتوقع الصندوق أن تعود النسبة إلى الارتفاع في عام 2013، لتقترب من مستويات ما قبل الأزمة بعدئذ.
الواقع أن تفسير صندوق النقد الدولي للانخفاض الأخير في نسبة فائض الحساب الجاري إلى الناتج المحلي الإجمالي في الصين، صحيح في الإجمال. فالخبرة تشير إلى أن موقف الصين الخارجي حساس بدرجة كبيرة للظروف العالمية، حيث ترتفع نسبة الفائض إلى الناتج المحلي الإجمالي أثناء فترات رواج الاقتصاد العالمي وتهبط أثناء فترات الركود. ولقد ألحقت الوعكة التي تمر بها أوروبا ضرراً بالغاً بالصادرات الصينية، ومن المؤكد أن هذا يشكل العامل الأكثر أهمية وراء الانخفاض الحالي لهذه النسبة.
فبحكم التعريف، إذا لم يحدث تغيير في فجوة الادخار، فلن يحدث تغيير في الفائض التجاري، والعكس صحيح. وعلاوة على ذلك، فإن فجوة الادخار والميزان التجاري يتفاعلان فيما بينهما بلا انقطاع، على نحو يجعلهما متساويين دوما. وفي الاستجابة للأزمة المالية العالمية في عام 2008، طرحت الصين حزمة تحفيز بلغت قيمتها 4 تريليونات رنمينبي (634 مليار دولار أمريكي). وفي عام 2010، عَدَّلَت الحكومة الصينية سياستها الاقتصادية. ففي محاولة للسيطرة على التضخم والفقاعات العقارية، قرر البنك المركزي تشديد السياسة النقدية وامتنعت الحكومة عن تقديم جولة أخرى من التحفيز المالي. كان الاستثمار العقاري في الصين يشكل نحو 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المحتم أن يؤدي تباطؤ نمو الاستثمار في هذا القطاع إلى خفض الطلب على الواردات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن المرجح أن يتغير هذا الوضع في عام 2012. فقد كان التأثير السلبي الناتج عن تراجع الاستثمار العقاري منذ عام 2010 أعمق وأطول مما كان متوقعا؛ بل إن كل فئات الواردات تقريباً التي تراجعت بنسبة 10 في المائة أو أكثر في شهر آب (أغسطس) كانت مرتبطة بالاستثمار العقاري. ونتيجة لهذا فمن المحتمل أن يعمل الانخفاض في نمو الاستثمار على عكس اتجاه نسبة الفائض الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي المتراجعة في عام 2012، ما لم يتدهور الاقتصاد العالمي إلى مستويات أدنى و/ أو أطلقت الحكومة الصينية حزمة تحفيز جديدة. لعل الأمر الأكثر أهمية أن الصين لا بد أن تعمل الآن على تصدير المزيد من السلع المصنعة من أجل تمويل الواردات من الطاقة والمنتجات المعدنية. والواقع أن تدهور الفارق في الأسعار بين الصادرات والواردات كان بمثابة عامل رئيسي أسهم في انخفاض فائض الحساب الجاري في الأعوام الأخيرة. مع ذلك، وعلى الرغم من جدارة تحليله، فإن صندوق النقد الدولي يقلل من شأن التقدم الذي أحرزته الصين في عملية إعادة التوازن. وفي اعتقادي أن عملية إعادة التوازن في الصين كانت أكثر أصالة ــ وأكثر جوهرية ــ من إدراك الصندوق، ومن المرجح أن يتبين خطأ توقعاته بعودة نسبة الفائض الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي في الصين إلى الارتفاع في نهاية المطاف.
فأولا، لا بد وأن يكون ارتفاع سعر الصرف الحقيقي منذ عام 2005 بنسبة 30 في المائة تقريباً قد أثر بشكل كبير على الصادرات، ولقد تجلى هذا التأثير في إفلاس ــ وأيضاً ترقية مستوى ــ العديد من الشركات في المناطق الساحلية. وثانيا، تشهد مستويات الأجور في الصين الآن ارتفاعاً سريعا. فوفقاً للخطة الخمسية الثانية عشرة، لا بد أن ينمو الحد الأدنى للأجور بنسبة 13 في المائة سنويا. وإلى جانب الارتفاع الحقيقي لسعر الصرف، فمن المحتم أن تؤدي الزيادة في تكاليف العمالة إلى إضعاف القدرة التنافسية لقطاع التصدير الكثيف العمالة في الصين، وهو ما سينعكس في الميزان التجاري بشكل أكثر وضوحاً في الأعوام المقبلة.
وثالثا، حققت الصين تقدماً كبيراً في بناء نظام الضمان الاجتماعي. فقد ارتفع عدد المستفيدين من تأمين الشيخوخة الأساسي، والتأمين ضد البطالة، وتعويضات العاملين، وتأمين الأمومة، إلى حد كبير. كما بدأ العمل ببرامج التأمين الطبي الشامل، فضلاً عن ترسيخ نظام شامل لتقديم الإعانات للطلاب المنتمين إلى أسر فقيرة.
وأخيرا، سوف يلعب تدهور الفارق في الأسعار بين الصادرات والواردات دوراً أكثر جوهريا في تقليص الفائض التجاري في المستقبل. ونظراً لضعف الطلب، والذي قد يمتد لفترة طويلة، فيتعين على المصدرين الصينيين أن يقبلوا هوامش ربح أقل بشكل متزايد من أجل الحفاظ على حصتهم في السوق. باختصار، ما لم تفقد الحكومة الصينية رباطة جأشها إزاء التباطؤ في نمو الناتج إلى الحد الذي يجعلها تغير سياساتها الحالية، فمن المرجح أن يستمر انخفاض فائض الحساب الجاري نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، لا أن يعود إلى الارتفاع، في عام 2013 وما يليه. والواقع أن هذه النتيجة ليست مرجحة فحسب، بل إنها مرغوبة أيضا. ففي مواجهة ''التيسير الكمي غير المحدود'' تصبح أي جهة دائنة صافية ضخمة في موقف أسوأ كثيراً في ظل الاقتصاد العالمي اليوم.
خاص بـ ''الاقتصادية''
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012.

المزيد من مقالات الرأي