الطائفة والفئة والوطن
الوطن فكرة عظيمة للدولة الحديثة هدفها إذابة الفروق وتوحيد الانتماء للوطن الواحد المستقل، ومن هنا تكون فكرة الوطن علوا على الطائفية، والقبلية، والمذهبية، والتحزب، والتجمع، لكي تنظم الفرد في ولاء حقيقي ليصير شريكا في الوطن: أرضه، وسمائه، وحدوده، وعلمه، ونشيده، ورموزه التي صنعت أمجاده في حقب التاريخ المتعاقبة بهزائمه وانتصاراته ورفعته.
الوطن أرضه وحدوده ورموزه وعلمه ونشيده معنى يعلو على الجميع لصنع المعاني المحايدة للانتماء وخارج أي مساس بهذه المعاني لحساب أي كان من الناس مع الحفاظ على قداسة المقدس في الوطن، وأديانه ومذاهبه وتنوعاته الاجتماعية بأمن وسلام للجميع.
من هنا تكون هناك شرعيات كثيرة تأخذ حقها في الوطن بمجرد انتمائها للمعنى الكبير في تصور الوطن، وهذه الكيانات أيا كانت تفقد انتماءها للوطن لو رفعت علما فوق علمه، أو مجدت وطنا عليه، أو قدست غير مقدساته، أو تجاوزت نطاقها المحدد في المواطنة، والعمل تحت سقف الوطن الحاضن.
من هنا تكون الأديان والمذاهب والقبائل والتحزبات منتمية للوطن مستظلة بظله، وحمايته، وليست فوق سقفه لتستطيع الزعم بالانتماء وبغير هذا الولاء لا تكون من مكونات الوطن فيضيق بها مجمل مكون الوطن.
الطائفية مثلا مسمى ينسب لدين (أي دين) أو مذهب، تسندها فكرة غيبية متخيلة في أذهان أتباعها تجسد لهم حقيقة كجنة موعودة، أو نبي منتظر، أو عدل يتحقق أو حقوق تعود، ولا يوجد مجتمع حديث خال من التنوع الطائفي، فهي كيان من كيانات كثير في الوطن، لكن المشكلة تأتي حين تسييس الطائفة وتدخل في صراع سياسي مع غيرها من مكونات الوطن الواحد، وهذا ما نرفضه، لأنه من عمل السياسي المتطلع لخلط صراعه الدنيوي بفكر عقائدي لمصلحته ضد مصلحة الوطن المتنوع.
الطائفية على أي حال ليست مطالب وطنية ولا تقوم على أساس انتماء وطني، أو رغبة في الاستقلال من محتل، فكلما علت الطائفية غابت فكرة الوطن، وبرز الصراع الأيديولوجي الذي لا ينتهي، ومن هنا الطائفية أداة السياسي الفاشل الذي لا يملك مشروع تجميع الناس من أجل حكمهم والسيطرة عليهم، وهي في الوقت نفسه أداة السياسي الضعيف لجمع أتباعه تحت إمرته، لضمان الولاء لمبادئه لا لقوته، فالطائفية المتشددة مفهوم مزدوج الغرض له وجهان: الوجه الأول (فرّق تسد) والوجه الثاني (ضمان ولاء فئة لتحميك من غيرها بالمعتقد).
ويمكن توصيف الحزب أو الفئة ما توصف به الطائفة باختلاف التعريف والهدف، لكننا في المحصلة لا نجد الطائفة ولا الحزب ولا المذهب قابلا في النظرية أن يصير وطنا يسع الجميع، لذلك قلت: إن الوطن، والوطنية، والمواطنة من أعظم ما ابتكره عصر الدولة الحديثة لنظم الناس في نسق واحد مع نسيان خلافاتهم.