رحيل «دود والا» .. رجل الحليب الأول في الهند
ربما يعلم الكثيرون في عالمنا العربي أن الهند هي أكبر منتج للحليب في العالم، وأن مصانعها ومزارعها المنتشرة في أنحاء البلاد، التي يعمل فيها نحو عشرة ملايين عامل ومزارع، تنتج يوميا ما يفوق 20 مليون لتر من هذه السلعة الغذائية، وأنها أنتجت بين عامي 2010 و2011 نحو 121 مليون طن، أي أكثر من 17 في المائة من الإنتاج العالمي الكلي.
وربما لا يعلم الكثيرون منا أيضا أن هذه الحقيقة هي إحدى ثمار ما عـُرف بـ ''الثورة البيضاء'' التي انطلقت من ولاية غوجرات الغربية في السبعينيات، وأن مهندس هذه الثورة هو مجرد فرد بسيط من بين مئات الملايين من الهنود، لكنه كان صاحب رؤية متميزة وأهداف واضحة، وقدرة فائقة على مقارعة التحديات التي تقاطعت في حينه مع رؤى وسياسات أول زعماء البلاد جواهر لال نهرو، ومن بعده ابنته أنديرا غاندي التي سارت على خطى والدها لجهة تبني سياسات زراعية هادفة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في الطعام، كيلا تبقى الهند أسيرة لإملاءات الخارج، أو مهددة بالمجاعة.
هذا الفرد، الذي خسرته الهند أخيرا عن 90 عاما، هو الدكتور فارغيز كورين، الذي يلقبه مواطنوه بـ ''دود والا''، والذي يعني بالعربية ''رجل الحليب''. غير أن رحيل ''دود والا'' لم يكن كرحيل آخرين ارتبطت أسماؤهم بحياة الهنود اليومية، ذلك أن قيادته للبرنامج التعاوني الأكبر في العالم لإنتاج الألبان، والثورة البيضاء التي غيرت حياة الملايين من البشر داخل الهند وخارجها، وإدارته دفة العشرات من شركات إنتاج الألبان صاحبة العلامات التجارية المتميزة، وفي مقدمتها ''أمول''، جعلته قريبا من القلوب، وصاحب اسم يتردد يوميا على موائد الطعام في المدن والقرى.
بدأ ''دود والا'' مشوار حياته بالسير على خطى والده لجهة الشغف بالتحصيل العلمي، لكنه على خلاف أبيه الذي درس الطب وعمل جراحا في كوتشين في ولاية كيرالا، التحق الابن في 1940 بجامعة مدراس ليتخرج فيها بعد حين حاملا بكالوريوس الهندسة الميكانيكية. تلك الإجازة الجامعية مهدت له الطريق أولا للانضمام إلى معهد جمشيدبور التقني التابع لمجموعة تاتا الصناعية، الذي تخرج فيه في 1946، ومهدت له الطريق لاحقا للحصول على بعثة حكومية إلى الولايات المتحدة لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه في هندسة فلزات المعادن والفيزياء النووية من جامعة ميتشجان الحكومية.
لكن يبدو أن الرجل، حينما عاد إلى وطنه من الولايات المتحدة في 1949 وهو في سن الـ 28، كان يخفي رغبة دفينة لاستخدام تخصصه العلمي في عمل يحقق من خلاله شيئا يؤثر به في حياة الملايين من مواطنيه. وهكذا وجه جهوده نحو القطاع الزراعي والغذائي، خصوصا أن الحكومة الهندية قررت تعيينه بمجرد عودته من بعثته التعليمية في مزبدة حكومية مقامة منذ عام 1914 في بلدة أناند في ولاية كوجرات لإنتاج كمية محدودة من الحليب. في تلك السنوات لم يجد المهندس الشاب ما يفعله داخل سكنه الكئيب في مرآب المزبدة سوى التأمل والتفكير. وفي أيام الإجازات كان ينطلق نحو فندق تاج محل الفخم في بومباي من أجل الاسترخاء والتخلص من الضجر واليأس.
وقتها كانت صناعة الألبان محتكرة من قبل شخصيات إقطاعية معروفة أو شركات احتكارية مثل ''بولسون'' التي كانت تجني أرباحا كبيرة من احتكارها لألبان ''أناند'' بفضل موقع الأخيرة الاستراتيجي ووقوعها على خط حديدي مركزي يتيح نقل المنتج إلى مناطق استهلاكية مختلفة بالسرعة المطلوبة.
لكن سرعان ما تغير الوضع بصورة دراماتيكية بفضل قرار اتخذه بعض زعماء الاستقلال من رموز حزب المؤتمر الوطني للتصدي لاحتكار ''بولسون'' وغيرها. ففي اجتماع عقد في قرية تشكلاسي في 1946 تم وضع اللبنات الأولى لما سيعرف لاحقا بالبرنامج التعاوني لصناعة الألبان، حيث تقرر أن يمتنع المزارعون عن بيع منتجاتهم من الألبان لشركة بولسون، وأن تؤسس كل قرية تعاونية لإنتاج وتسويق ألبانها بنفسها، على أن يؤسس لاحقا اتحاد لكل التعاونيات القروية يكون مقره أناند. وهنا لاحت فرصة العمر لكورين الذي قدم استقالته فورا من وظيفته الحكومية، ليطلق العنان لمواهبه وأحلامه من خلال الانخراط مع غيره في مشاريع صناعية وزراعية عمادها صناعة الألبان ومشتقاتها.
وفي زمن قياسي استطاع الرجل بناء أكبر وأنجح برنامج تعاوني لإنتاج الألبان في الهند انطلاقا من ولاية كوجرات، الأمر الذي أبهر نهرو وخليفته شاستري، بل دفع الأخير في 1965 إلى تعيينه على رأس المؤسسة الوطنية لتطوير صناعة الألبان، بل تعميم تجربته في الإنتاج والتطوير والإدارة الديناميكية على مستوى الهند كلها.
ويمكن اعتبار النقطة الفارقة في حياة ''كورين'' تمكنه من تقديم بديل للحليب البقري المجفف، الذي كانت الغالبية الساحقة من سكان الهند (أي الهندوس) تتجنب استهلاكه لاعتبارات دينية تتعلق بتقديسها للبقر. ولم يكن هذا البديل سوى استخراج الحليب المجفف من الجاموس البري. هذا الإنجاز الذي جعل ملايين الهنود ينصرفون عن منتجات شركات أجنبية مثل ''نستلة'' و ''كليم'' و ''نيدو'' ويتحولون عنها إلى منتجات ''أمول'' الهندية، وحوّل الرجل إلى شخصية معروفة ومحبوبة بين مواطنيه، ورفع رصيده بين كبار رجال الأعمال وأصحاب الأصوات المسموعة في المجتمع. وهو من جانبه لم يتخلف قط عن المساهمة بالجهد وضخ الأموال والخبرات في الكثير من المؤسسات الاجتماعية والصناديق الخيرية والتنظيمات الهادفة إلى الارتقاء بمستويات المعيشة والتعليم والصحة في الأرياف والأقاليم الهندية النائية، ما جعله يحظى باحترام إضافي ويحصد الكثير من الجوائز التقديرية من جامعات هندية وأمريكية وكندية ومؤسسات غذائية أمريكية وآسيوية، غير أن حصوله في 1963 على جائزة ''ماغسايساي'' التي تحمل اسم الرئيس الفلبيني الأسبق رومان ماغسايساي، وتمنح سنويا للمبدعين الآسيويين في حقول مختلفة، تبقى الجائزة الأبرز كونها في منزلة جائزة نوبل عند الآسيويين.
ومما يُحسب للرجل أنه قاوم كل الإغراءات لدخول عالم السياسة، مفضلا ألا يلوث سمعته بما يجري فيه من فساد وصفقات مريبة، ومعتبرا أن خدمة المزارعين والفلاحين الفقراء والارتقاء بأحوالهم، وإنتاج الغذاء للملايين من البشر هو من أشرف الأهداف وأنبلها. كما تحسب له جسارته في التصدي للبيروقراطيين الذين كثيرا ما أعاقوا خططه لتطوير وتوسعة مشاريعه الغذائية. إذ كان يحاربهم بضراوة ويسخر منهم قائلا: ''إني بنيت عظامكم وعظام أولادكم من خلال ألباني، فماذا فعلتم أنتم غير تسريب اليأس إلى الأنفس التواقة للعمل''.
ومن الأمور الأخرى المعروفة عنه تواضعه الجم الذي جسدته مقولة له في كتاب له بعنوان ''كان لدي حلم''، وفيها أن ما حققته الهند في صناعة الألبان ومشتقاتها عمل يجب ألا يُعزى إلي وحدي، إنما هو نتاج عمل جماعي متقن ساهم فيه تحالف المزارعين واتفاقهم، ودعم ساسة حزب المؤتمر الحاكم، والتزام العمال والموظفين بتطبيق التكنولوجيات والمعايير الإدارية الحديثة، وإيمان الملاك بهند مزدهرة، إضافة إلى الديمقراطية الهندية.