ربُّ العالمين وإيمانُ العاجزين !

نواميس الكون والحياة تنفعل مع المؤمن والكافر، والبرِّ والفاجر، ولا تتحيز لأحدهما دون الآخر متى تم الالتزام بها واحترامها والتعامل الجدي معها، ذلك لأن الله ربٌّ لجميع البشر، المسلم منهم وغير المسلم، شاء الناس أم أبوا، ومن ثم فإن عطاء الربوبية ليس حكراً على فئة دون فئة، أو ملة دون ملة، أو جنس دون جنس، أو لون دون لون، وإنما هو عطاء للكافة، غير أن تحصيله مرتبط بأسباب تؤدى إليه!.

العطاء الرباني غيب مطمور في جو السماء أو في جوف الأرض أو في قاع البحر، لا يعلم الناس طريقه إلا إذا بحثوا في الأسباب التي تكشف سره وتجلي غموضه، ثم يجعلون منه بعد ذلك كشفاً أو سبقاً علمياً، وعليه فإن العطاء الرباني غيب يتكشف بسعي وبحث وعلم، فمن سلك الطريق وصل، ومن تكاسل تراجع وتخلف، وهذا المنطق يسرى على جميع البشر بلا تفريق أو تمييز، وعليه فإن الإنسان مفتاح لقدر الله في الأرض، إذ أن قدرة الله الخفية تقف وراء نية الإنسان وإرادته فإن همَّ بعمل ما تحقق قدر الله بسعي الإنسان نحو إتمامه، وحتى تتضح الرؤية أضرب مثالاً:

لو اشتد البرد في يوم ما وأراد واحد منا أن يدفئ جو الحجرة بتشغيل المدفأة.. ماذا يفعل؟.. يقوم بتوصيل المدفأة بالكهرباء والضغط على مفتاح التشغيل حتى تؤدى المدفأة مهمتها في التدفئة، وهنا يتبادر إلى العقل سؤالان منطقيان.. الأول: ماذا يحدث إذا انعدم مصدر الطاقة متمثلاً في الكهرباء؟، والثاني: ماذا لو لم يتم الضغط فوق مفتاح تشغيل المدفأة؟.. الإجابة المنطقية عن السؤالين تقول: لا يمكن أن تعمل المدفأة إذا انعدم أحد الأمرين أو كليهما، فإذا ما شبهنا القوة الكهربية الخفية بقدر الله، ولله المثل الأعلى، وإذا ما شبهنا الضغط على مفتاح المدفأة بإرادة الإنسان وسعيه لانجاز عمل ما، فإننا عندئذ نستطيع القول بأن عمل الإنسان على الأرض لا يتحقق إلا بالركنين معا.. سعى وبحث وعمل من قبل الإنسان، ومشيئة ربانية يتحرك في إطارها هذا السعي البشرى، فلا يمكن أن تعمل المدفأة بالكهرباء وحدها، ولا يمكن لها أن تعمل بالضغط على مفتاح تشغيلها مع انعدام الكهرباء، ولو طبقنا المثال على قدر الله على البشر لعرفنا يقيناً أن الإنسان مفتاح لقدر الله في الأرض.

وبناءً على هذا الفهم، فليس من المقبول أو المعقول أن يعلق الإنسان فشله في الحياة على شماعة القدر، ويدعى كذباً وزوراً أن الله قدّر ذلك، ثم يقول أين المفر من القدر؟..فهذه نظرية القدريين والجبريين ممن تنازلوا طواعية عن إرادتهم، وقبلوا أن يعيشوا تديٌّـناً مغشوشاً يرفضه الإسلام شكلاً وموضوعاً، ذلك لأن الإسلام دين عمل، بل إنّ العمل في نظر الإسلام يعد عبادة، والساعي والباحث في مناكب الأرض أعبد في نظر الإسلام من الذي يقضى النهار والليل داخل المحراب يتعبد، وإنّ المتأمل لآيات القرآن يلمس عن كثب كيف ارتبط الإيمان الصادق بالعمل الصالح ارتباطاً وثيقاً في معظم الآيات القرآنية التي تحدثت عن الإيمان والعمل، فلا حجة إذن لأرباب الكسل والتراخي ومن دار في فلكهم.

إني أعتقد أن الإيمان بقدرية وحتمية التخلف والتراجع على طريق الحياة هو تخلف وتراجع كبير في الإيمان بربوبية الخالق الرازق.. كيف نقرأ في كل ركعة من ركعات الصلاة { الحمد لله رب العالمين } وهى أول آية بعد البسملة ولا يتم العمل بمقتضاها على نحو ما أراد منزلها سبحانه.

إنّ الله خلق الإنسان وميزه عن سائر خلقه بعقل وإرادة.. العقل للتفكير والتخطيط، والإرادة لإخراج التفكير والتخطيط إلى حيز التنفيذ والتطبيق، ولذلك فحين يُعْمِل الإنسان عقله وإرادته في واقع حياته، فإنه يعلن صراحة عن إيمانه العملي بربوبية الخالق الرازق سبحانه، وعندئذٍ فقط سوف يُمنح عطاء تلك الربوبية.

إنّ الدنيا والآخرة طريق واحد، أوله الدار الدنيا وآخره الدار الآخرة، والدنيا هي المعبر الوحيد إلى الآخرة، فلا يصح أن نتعلق بتلابيب الزهد المفتعل ونترك الدنيا ونعتزل الحياة تحت مبررات لا تمت للحقيقة بصلة.. فكيف نزهد في شيء لا نملكه؟!، ولذلك فإن الأوجب والأصح أن ننفض عن الكواهل غبار السلبية والانهزامية، وأن ننهض فوراً من على مقاعد المتفرجين، كي نكون فاعلين لا كسالى ومتواكلين، لأن الفاعل دائماً يأتي أمام المفعول به.

بقىّ في الجعبة حديث شريف.. يجمع في رحابه كل هذا الشتات.. في كلمات مانعة لامعة، قال المعصوم صلى الله عليه وسلم { إذا قامت القيامة وفى يد أحد يدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها }.. القيامة على مرمى حجر، والفسيلة وهى صغار النخيل لن تؤتى ثمرها إلا بعد سنوات.. وأغرسها؟.. فمن سيأكل منها والقيامة قائمة؟! ..نعم عليك أنْ تغرسها.. ففي ذلك أكبر دليل على إيمانك برب الأرباب ومسبب الأسباب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي