محمد مصدق .. بعيون جديدة

زميل لنا كتب أخيرا مقالا أشار فيه عرضا إلى الدكتور محمد مصدق، الذي قاد حركة المعارضة في إيران ضد نظام الشاه في أوائل الخمسينيات، وقام بعملية تأميم ارتجالية سريعة للنفط بدعم وتحريض من المرجعية الشيعية التي كان يتزعمها وقتذاك آية الله أبو القاسم كاشاني. ومما ذكره الكاتب أن تلك الأحداث لا يزال يكتنفها الغموض، ولم يُكشف كثير من أسرارها.
والحقيقة، غير ذلك، فهناك عشرات المؤلفات بالفارسية والفرنسية والإنجليزية التي سلطت الضوء على ذلك الحدث المهم، وعلى شخصية صاحبه وطموحاته وتوجهاته الفكرية. من بين تلك المؤلفات: ''مصدق: السيرة الذاتية السياسية'' لفرهارد ديبا، و''مصدق .. سنوات الصراع والمعارضة'' لغلام ميرزا نجاتي، و''الدور السري للاستخبارات الأمريكية في انقلاب 1953'' لمالكولم بيرن، و''الانقلاب المضاد: الصراع من أجل السيطرة على إيران'' لكيرميت روزفلت. هذا إضافة إلى كتاب ''مذكرات مصدق'' من إعداد: هُما كاتوزيان.
وعليه فإن ما تم نشره حول مصدق كثير، لكن المشكلة تكمن في أننا لا نبحث وإنْ بحثنا فلا نقرأ إلا ما نُشر بلغتنا، دعك مما هو شائع لدينا من القراءة بلغة العواطف، لا بلغة التحليل الموضوعي، ناهيك عما تعودت عليه المجتمعات العربية والشرقية من المبالغة في تصوير شخصياتها الوطنية، وإسباغ هالات التقديس عليها، وقمع كل من يتعرض لها بالنقد. وهذا ما حدث مع مصدق في إيران، وجمال عبد الناصر في مصر، و''محمد علي جناح في باكستان، وماو تسي تونج في الصين، وهو شي منه في فيتنام مثلا.
ويجيء كتاب ''وطني من بلاد فارس'' للأكاديمي كريستوفر دي بيلاغو، الذي صدر أخيرا ليضيف رؤى ومعلومات جديدة عن تاريخ الحركة الوطنية الإيرانية وشخصية قائدها مصدق، وليدحض في الوقت نفسه كثيرا من الأساطير التي عششت في عقول كثيرين حول الأخير؛ مثل ليبراليته، وتوجهه الديمقراطي، وحنكته السياسية، وكراهيته للغرب، وقربه من الطبقات الكادحة.
صحيح أنه في آب (أغسطس) 1953 نظم اثنان من عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عملية أسقطت حكومة ''مصدق'' الذي كان الشاه عينه رئيسا للوزراء في 1951. وصحيح أن هذه العملية الأمريكية ما كانت لتنجح لولا تعاون ومباركة الإنجليز أصحاب النفوذ والاستثمارات النفطية في إيران الخمسينيات.
لكن الصحيح أيضا هو أن مصدق، بعناده وغروره، وعدم إجادته اللعبة السياسية، وسوء تقديره للعواقب تسبب بنفسه في عملية الإطاحة به، بدليل أنه رفض التفاوض مع الإنجليز واستقبال بعثة ''ستوكس'' البريطانية، ومقترحات بعثة ''ترومان''، وعروض الوساطة من تشرتشل وترومان وإيزنهاور والبنك الدولي.
وخلافا لما قيل عنه، فإن مصدق لم يكن بالقائد الملهم ذي التوجهات الليبرالية، أو الزعيم الممثل لكل أطياف الشعب الإيراني، إنما كان رجلا ديماغوجيا يستخدم الشعارات الشعبوية لحشد خصوم الطبقة الوسطى المدينية المتعلمة، والأثرياء وطبقة الملاك، أي الفقراء والمهمشين، ومعهم الغوغاء من اليساريين، وآيات الله في قم ممن كانت لهم ثارات بائتة مع أسرة بهلوي منذ قيام رضا شاه الكبير بعصرنة البلاد وتقليص نفوذهم.
وهذا ما أكده شخصية ذات مصداقية ووزن هو مظفر بقائي أستاذ المنطق في جامعة طهران وعضو البرلمان وزعيم حزب العمال الديمقراطي الشعبي في تلك الحقبة، الذي وصف مصدق بأنه شاب وطني، قبل أن يتراجع ويصفه بـ ''الديماغوجي''، بعدما تيقن من أفكاره العبثية ونهجه الديكتاتوري.
ولسنا في حاجة هنا إلى التذكير بأن إيران في تلك السنوات، إنْ لم تكن ديمقراطية بالكامل، فقد كانت على الأقل ذات نظام ملكي دستوري يعين فيه الشاه رؤساء الحكومات من بين زعماء الأحزاب السياسية الأكثر حصدا لمقاعد البرلمان. وعليه فإن الشاه محمد رضا بهلوي، منذ تسلمه سلطاته في 1941 خلفا لوالده حتى مغادرته طهران إلى المنفى في 1979 عيَّن وأقال رؤساء حكومات كثر، لكن أيا من تلك الإقالات لم تُنعت بالانقلاب إلا في حالة مصدق.
ويذكر كريستوفر دي بيلاغيو في كتابه آنف الذكر، أنه لا يوجد في تاريخ مصدق السياسي الذي امتد لنحو نصف قرن نائبا عن أصفهان في برلمان 1906، وحاكما لإقليم فارس، ووزيرا للمالية في حكومة أحمد قوام السلطنة 1921 وزيرا للخارجية في حكومة مشير الدولة 1923، ورئيسا للحكومة، ما يصلح دليلا على أنه شخصية ليبرالية. بل العكس هو الصحيح، فقد سُجل عنه قوله إن الزعيم المثالي هو من يجبر الناس على طاعته دون نقاش، وهذه طبعا ليس من صفات الليبرالي، إنما من صفات ذوي التوجه الإسلامي التقليدي ممن سعى مصدق إلى التواصل معهم وزيارتهم، وطلب نصحهم ومباركتهم.
كما أنه لا يوجد دليل على أن مصدق كان ديمقراطيا، بل على العكس، فقد كان ميالا للديكتاتورية، بدليل أنه لم يعقد اجتماعا كاملا لمجلس الوزراء ولو مرة واحدة، ناهيك عن أنه بمجرد وصوله إلى السلطة قام بحل مجلس الشيوخ وأغلق البرلمان وعلق الانتخابات العامة وحل المجلس الوطني للتعليم العالي وأقال قضاة المحكمة العليا.
وهكذا كان مصدق قبيل إقالته وتعيين الجنرال زاهدي مكانه في 1953 على خلاف مع الجميع إلى حد أن البعض كتب إلى الأمين العام للأمم المتحدة مطالبا بتدخله لإنهاء الديكتاتورية. والمثير أن من بين الذين وقفوا ضده آية الله كاشاني، فهذا الذي كان قد أطلق صيحة ''أيها الكلاب الإنجليز اتركوا لنا نفطنا واخرجوا من بلادنا''، وأتبعها بقيادة مظاهرة ضخمة من قم إلى طهران للضغط على البرلمان كي يقر تأميم النفط، ثم أفتى بأن ''كل من يعارض مصدق في سياسة تأميم النفط فهو عدو للإسلام''، هو نفسه من أفتى لاحقا بأن مصدق عدو للإسلام بسبب تماهيه مع اليسار حول تحديد الملكية الزراعية.
أما عن الجوانب الشخصية في سيرة الرجل، فكل الشواهد تؤكد أنه كان إقطاعيا بامتياز، أي خلافا لما قيل من أنه كان يستشعر نبض الفقراء. فهو كان أحد أبناء عمومة شاه القاجار وينتسب لواحدة من العائلات الألف الأكثر ثراء في إيران الخمسينيات، الأمر الذي سمح له ولأبنائه بتلقي الدراسة المكلفة في سويسرا وفرنسا، بل سمح لأبنائه بالاحتفاظ بمربيات فرنسيات، والعلاج في باريس وجنيف، واصطحاب حاشية كاملة معه حينما نفي داخليا وتدهورت صحته.
وفيما خص موقفه من الغرب، فإن هناك أيضا تناقضا غريبا، حيث يصفه دين إتشيسون وزير الخارجية الأمريكي في عهد الرئيس ترومان، بأنه ''فارسي ثري، ورجعي متعصب، وكاره للغرب''، رغم تلقيه العلم في أوروبا، وارتباط عمه ''فارمانفارما'' بعلاقات خاصة مع الإنجليز لأربعة عقود، وإعلانه أنه ارتبط بعلاقات أخوية حميمة مع القنصل البريطاني في بوشهر حينما كان حاكما لإقليم فارس. هذا إضافة إلى ما هو معروف من أنه طلب الحصول على جنسية سويسرا بعد نيله شهادة الدكتوراه منها، ولم يتخل عن الطلب إلا حينما أبلغ بأن الأمر قد يستغرق عشر سنوات.
لقد أراد ملالي قم في الخمسينيات استغلال مصدق وحركته للوصول إلى السلطة ففشلوا في مسعاهم ونجا مصدق من مقصلتهم ليموت معزولا في 1967، لكنهم أعادوا الكرة في نهاية السبعينيات مع خلفاء مصدق من أمثال مهدي بازركان وإبراهيم يزدي وكريم سنجابي، فلما حقق الآخرون لهم أهدافهم انقلبوا عليهم وتخلصوا منهم شنقا أو نفيا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي