تحديد ساعات العمل بين المنظور الاقتصادي والهم الوطني

يكاد يتفق الجميع على أن قضية التوطين والحد من البطالة تمثل إحدى أهم قضايانا الوطنية وتحتل أولى أولوياتنا التنموية. ولعل المتابع لما يتم طرحه على الساحة الإعلامية ودراسات التنمية والقضايا الاقتصادية الملحة يلاحظ أن هذه القضية تشغل بال العامة والخاصة منذ عقود عدة. وهو أمر غير مستغرب، لأن قضية توظيف القوى العاملة الوطنية لأي بلد هي الهدف الاقتصادي الرئيس والأسمى على المديين القصير والطويل، وهي التي يوليها القادة، وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين، جل اهتمامهم.
ومن جانب آخر، فعلى الرغم من القناعة بأهمية القضية على المستوى الوطني وبالنظر إلى أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية... إلخ، وعلى الرغم من أنها تشغل اهتمام الجميع في هذا الوطن العزيز، وربما لا يكاد المرء يحصي المؤتمرات والندوات واللقاءات والحوارات التي تمت حولها خلال العقود الثلاثة الماضية، فضلاً عن البرامج الحكومية والقوانين التي تم طرحها وصدورها في الفترة ذاتها وقبلها، أقول على الرغم من ذلك كله إلا أن المشكلة ما زالت قائمة والتحدي يزداد يوما بعد يوم وتزداد المعضلة تعقيداً. وفي تقديري إن ذلك ربما يكون مفهوماً في الاقتصاديات التي تعاني شح الموارد الاقتصادية ومحدودية الفرص الإنتاجية وتدني مستوى الناتج المحلي الإجمالي وتباطؤ النمو الاقتصادي كأن تكون نسبة النمو الاقتصادي أقل من نسبة النمو السكاني... إلخ. لكن الحال هنا تختلف تماماً، فاقتصاد المملكة واحد من أكبر 20 اقتصاداً في العالم، وتحتل المرتبة الأولى في احتياطي أهم ثروة في العالم وتسيطر على أكثر من 25 في المائة من المخزون العالمي من النفط، وينمو اقتصادها بأضعاف نمو سكانها.
الذي أردت أن أقوله إن عدم القدرة على حل مشكلة البطالة في اقتصاد مثل اقتصاد المملكة موضوع غير مفهوم ويصعب تبريره، خاصة في ظل وجود الإرادة السياسية الجادة وتوافر الموارد الاقتصادية اللازمة.. أي أن محوري المعادلة أعني (الإرادة السياسية + الموارد المالية) أمر واضح ومسلم به. إذاً ما العلة وما الأسباب الكامنة وراء استمرار هذه المعضلة الوطنية؟
لقد حاولت في أكثر من مقال سابق ولقاء تلفزيوني أن أُنبه إلى أن أحد الأسباب الفعلية في عدم إيجاد برامج تنفيذية فاعلة لهذه القضية ربما يكمن في وجود خطأ في المفاهيم أفضى إلى خلل في الآلية، وبالتالي حتى إن صحت الآليات فهي لا تحقق الأهداف الحقيقية ذات العلاقة المباشرة بالمشكلة. وفي ظني أننا أحوج ما نكون إلى البحث عن حلول نوعية وغير تقليدية تُعالج الأسباب الفعلية للمرض وتوقف انتشاره بشكل حاسم وقوي، لا أن نركز على المعالجة بشكل استحيائي يقوم على أسلوب ترقيع الثياب البالية. فعلى سبيل المثال إتاحة الفرص للعمالة الوافدة لممارسة الأعمال التجارية خاصة في قطاع التجزئة، مع الإيمان بعدم قدرة المواطن على منافسة الوافد لأسباب يعرفها الجميع ولا يتسع المجال لذكرها. وعدم قدرة البرامج والمؤسسات التي أمر بإنشائها ولي الأمر على دعم المبادرين من الشباب بشكل فاعل ويحقق الأهداف التي أنشئت من أجلها. والتأخر في تعديل نظام العمل والعمال وتهيئة بيئة العمل بما ينسجم ومصالح أطراف العمل الرئيسة وغيرها كلها قضايا أساسية وتمثل حلولا محورية نوعية وفاعلة للحد من البطالة.
سعدت كثيراً بالحوار الذي تبنته وزارة العمل وبالدراسة التي أعدتها حول ساعات العمل اليومية والإجازة الأسبوعية للعاملين في القطاع الخاص بما ينسجم والظروف الاجتماعية. وتشير نتائج الدراسة من جانب وتوصيات الحوار من جانب آخر إلى أن تحديد ساعات العمل بـ 40 ساعة أسبوعية مع إجازة يومين للعاملين سيسهم في إقبال السعوديين على العمل في القطاع الخاص والحد من سيطرة الوافدين على الفرص المتاحة فيه.
فإن صحت نتائج الدراسة وتوصيات الحوار فإن التوجه يمثل أحد الحلول النوعية وخطوة جوهرية في قضية التوظيف. حتى إن سلمنا بأن ذلك سيؤدي إلى رفع تكاليف الإنتاج لدينا وربما تحميل نسبة الارتفاع على المستهلك النهائي وهي دعوى أصحاب الرأي الآخر لهذا التوجه... أقول حتى إن سلمنا بذلك فيجب ألا ينظر إليه على أنه عائق للأخذ بهذا التوجه، حيث إن من المسلمات العلمية أن كل السياسات والحلول الاقتصادية لها تبعات غير مرغوبة اقتصاديا وربما تفضي إلى بعض السلبيات.
لكن القضية تعتمد على معادلة العائد والتكلفة، في الواقع نحن أمام قضية تحتل أول الهموم الوطنية، أعني التوطين والحد من البطالة. وبالتالي فإن علينا إذا ما أردنا أن نتقدم في حلها بشكل جاد وجوهري أن نتحمل تكاليف تبعاتها، وهي تكاليف محتملة اقتصادياً مقارنة بالنتائج التي يفترض تحقيقها. الحلول الاقتصادية شأنها شأن الأدوية الكيماوية لها إيجابياتها ولها تأثيرات جانبية. ومتى ما كانت إيجابياتها أكبر من سلبياتها فقد يكون الأخذ بها أمراً مقبولا، خاصة في حالة الأمراض المستعصية الخطيرة، وأي مرض لدينا أكبر من البطالة، وأي أولوية وطنية أهم من التوطين وتوظيف القوى العاملة؟
أعتقد أن ما توصلت إليه الدراسة وما انتهى إليه الحوار موضوع جدير بالاهتمام، وربما يمثل خطوة فعلية في مسار التوطين والحد من البطالة. فإذا كان الأمر كذلك فإنني وبمعرفتي بالقطاع الخاص على يقين أن قطاع الأعمال في المملكة، وبما عرف عنه من وطنية وموضوعية وإيثار، لن يتأخر في دعم هذا الاتجاه وتبنيه في قطاعاته كافة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي