التنمية بين التوازن والانحياز

الحديث عن التنمية بكل أبعادها حديث لا يمكن الوصول من خلاله إلى رؤية واضحة حول منجزاتها وتوجهاتها وتوازنها، أو انحيازها نحو مكان دون آخر، أو فئة دون أخرى، أو إدارة دون أخرى إلى آخر القائمة التي يمكن الحديث حولها، والتنمية ذات نظريات مختلفة باختلاف زوايا الرؤية لها والنظرة نحوها ومكان الناظر لها وخلفيته العلمية والعملية، والتنمية ذات أبعاد اجتماعية وبشرية وسياسية واقتصادية وسكانية وإسكانية وخطط وبرامج، لكن ما يهمني في هذا المقال المحدود بالمساحة والكلمات هو إعطاء ومضات لإيضاح شيء من الخلل التنموي الذي عشناه ونعيشه دون الإقلال من حجم المنجز وأهميته، وأهمية تضافر جميع الجهود من أجل تحقيقه.
التنمية التي أرمي إليها وأحاول إيضاح أهميتها وأهمية استيعاب مفهومها وتوجهاتها هي التنمية التي تحقق الشمول والتوازن والتوازي، ولا تغيب الاستدامة كأساس لها ولا تغلب جانبا على جانب، ومن هذا المنطلق سأعرج وبشكل مختصر على أهم الملاحظات على التجربة السعودية خلال الحقبة الماضية:
وأولها: أهمية أن تقود الخطة سواء أكانت خمسية أو عشرية أو أكثر تنفيذ المشروعات والبرامج، وألا تكون الميزانية هي من يقود التنمية، أي ألا تكون الوفرة المالية المحرك للتنمية، (فإذا فيه فلوس فيه تنمية وإذا ما فيه فلوس ما فيه تنمية)، كما حدث خلال الحقب الماضية وسبق إيضاح ذلك في مقالات عديدة.
ثانيا: يجب أن تشمل التنمية كامل الحيز المكاني أو الجغرافي للوطن، بحيث لا تأخذ مدن أو مناطق كل شيء وبقية مدن ومناطق الدولة عبارة عن تجمعات بشرية ضعيفة، ما يؤدي إلى هجرة سكانها نحو المدن الأكثر نصيبا.
ثالثا: ألا تكون مشروعات التنمية عبارة عن مشروعات تنفيذية (خرسانة وحديد فقط)، لكن لا بد من توطين التنمية من خلالها، بحيث كل مشروع يولد فرص عمل من خلال توطين الأنشطة الاقتصادية والصناعية والخدمية مثل استثمار مشروعات التحلية وسكك الحديد وغيرها من المشروعات العملاقة في توطين فرص العمل من خلال إنشاء المشروعات المنتجة، لما تحتاج إليه تلك المشروعات من قطع غيار وصيانة، وما تتطلبه من إشراف وإدارة بدل ما هو حادث اليوم، وأن يكون توطين تلك الاستثمارات في المدن أو القرى الأقل نصيبا.
رابعا: أن يكون نشر الجامعات في المدن المتوسطة وبعض عواصم المناطق مرتبط بإيجاد فرص عمل حقيقية للخريجين وألا يعزز نشر الجامعات النظرة الإقليمية، بحيث لا يقبل في الجامعات إلا خريجو تلك المناطق، كما هو الحال اليوم في بعض الجامعات التي ترفض طلب الالتحاق بها لمن تخرج من خارج مدنها أو مناطقها.
خامسا: أن ترتبط برامجنا وخططنا بعضها مع بعض من خلال رؤية تنموية وطنية، وخير مثال على أهمية ذلك هو الحجم الكبير من المبتعثين السعوديين للخارج في ظل غياب برامج لاحتوائهم والاستفادة منهم عند عودتهم، وألا يتحولوا إلى عبء تنموي اقتصادي بشري سياسي على البلد مستقبلا، وهذا موضوع مهم وشائك يحتاج إلى سرعة دراسة وحل ضمن منظومة تنموية متكاملة.
سادسا: أن يكون اعتماد المشروعات، خصوصا الخدمية منها والمرتبطة بالمرافق العامة مثل الكهرباء والمياه والهاتف والصرف الصحي وتصريف السيول ضمن مشروع متكامل سواء على مستوى المدن أو الأحياء، بحيث نخرج من مشكلة كثرة الحفر والدفن التي تعيشها مدننا حاليا.
سابعا: تعزيز دور الإدارة المحلية، وإيضاح العلاقة بين الإدارة المحلية والإدارة المركزية للقضاء على كثرة الازدواجية والاتكالية التي نعانيها حاليا التي أثرت بشكل كبير في إنجاز المشروعات واستثمارها الاستثمار الأمثل.
ثامنا: إعادة تقويم الأنظمة المالية والإدارية، خصوصا في المؤسسة الحكومية والارتقاء بها إلى ما وصلت إليه دول العالم من تطور وجعل الإنتاجية مثلا ومعيارا للعمل والترقية والحوافز إلى آخر ذلك من المحفزات التي تساعد على الارتقاء بأداء المؤسسات والأجهزة الحكومية.
هذه المؤشرات التنموية السلبية وغيرها توضح الحاجة إلى إعادة النظر في ممارستنا التنموية وتؤكد الحاجة إلى تقديم نموذج تنموي أكثر قدرة على تحقيق التنمية المتوازنة بين مختلف أجزاء الوطن، وأيضا داخل مؤسساتنا الإدارية التنموية، ولعله يكون مدخلا مهما لإعادة النظر في الهيكلة الإدارية التنموية للمؤسسات الحكومية، ويحدد ويفصل بين المسؤوليات والمهام على المستوى المركزي أو الوطني وعلى المستوى المحلي، وأيضا يعزز ويفصل بين مسؤوليات الدولة والحكومة حتى نستطيع أن نحقق التنمية المتوازنة الشاملة والمستدامة لإنسان ومكان المملكة العربية السعودية ونستثمر ما نحن فيه من وفرة مالية لصالح الأجيال القادمة.

وقفة تأمل
''لعمرك ما رأيت المرء تبقى
طريقته وإن طال البقـــاء
على ريب المنون تداولته
فأفنته وليس له فناء
إذا ذهب الشباب فبان منه
فليس لما مضى منه لقاء
يَصَبُّ إلى الحيــاة ويشتهيها
وفي طول الحياة له عناء''

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي