نمو متقشف

كانت استجابة الحكومة الألمانية للدعوة التي أطلقها الرئيس الفرنسي المنتخب حديثاً فرانسوا هولاند لدعم المزيد من السياسات المؤيدة للنمو تتلخص في التأكيد على عدم إدخال أي تغيير على برامج التقشف في منطقة اليورو. ولكن بدلاً من هذا فإن اتخاذ التدابير الداعمة للنمو، مثل زيادة القروض من جانب بنك الاستثمار الأوروبي أو إصدار سندات مشاريع ذات ضمانات مشتركة لتمويل استثمارات بعينها، من شأنه أن ''يضيف'' إلى هذه البرامج.
ويتحدث كثيرون داخل وخارج ألمانيا عن الحاجة إلى التقشف والنمو في الوقت نفسه، وأن المزيد من التأكيد على النمو لا يعني أي خفض لبرامج التقشف. والواقع أن الدراما المتمثلة في أزمة منطقة اليورو الجارية كانت سبباً في تركيز الانتباه على أوروبا، ولكن الكيفية التي قد تنتهي إليها المناقشة الدائرة حول التقشف والنمو هناك تشكل قدراً أعظم من الأهمية، بما في ذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
ولا بد هنا من التأكيد على ثلاث نقاط رئيسية. فأولا، في ظل حالة من انتشار البطالة وزيادة القدرة الفائضة، يتحدد الناتج في الأمد القريب وفقاً للطلب في المقام الأول، وليس العرض. وفي دول منطقة اليورو، فإن السياسة المالية فقط هي الممكنة على المستوى الوطني، لأن البنك المركزي الأوروبي يسيطر على السياسة النقدية. وهذا يعني أن المزيد من النمو الفوري يتطلب إبطاء وتيرة تقليص العجز المالي.
والحجة المضادة الوحيدة هنا هي أن إبطاء ضبط الأوضاع المالية من شأنه أن يزيد من تدهور الثقة، وبالتالي عدم تلبية الغرض منه بالتسبب في انخفاض مستويات الإنفاق الخاص. وقد يكون هذا صادقاً إذا كان لدولة ما أن تعلن تخليها عن خطط ضبط الأوضاع المالية والدعم الدولي المرتبط بها، ولكن هذا من غير المرجح إذا قررت دولة ما إطالة فترة ضبط الأوضاع المالية بالتشاور مع المؤسسات الداعمة مثل صندوق النقد الدولي. والواقع أن صندوق النقد الدولي أوصى صراحة بإبطاء خطط ضبط الأوضاع المالية في إسبانيا في تقرير ''التوقعات الاقتصادية العالمية'' لعام 2012.
في غياب قدر أعظم من الدعم في الأمد القريب للطلب الفعّال، فإن العديد من الدول قد تواجه دوامة هابطة من خفض الإنفاق، وانخفاض الناتج، وارتفاع معدلات البطالة، بل وحتى زيادة العجز، وذلك بسبب الزيادة في الإنفاق على شبكة الأمان وانحدار العائدات الضريبية نتيجة لانخفاض الناتج وتشغيل العمالة.
ثانيا، من الممكن وإن لم يكن ذلك سهلا، أن نختار حزم ضبط الأوضاع المالية الأكثر ملاءمة للنمو من غيرها. وهناك التمييز الواضح بين الإنفاق الاستثماري والإنفاق الحالي، وهو ما أكَّد عليه رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي. والواقع أن الإنفاق الاستثماري من الممكن أن يرسي الأساس للنمو الأطول أمداً إذا كان جيد التصميم.
وهناك أيضاً التمييز بين الإنفاق الحكومي ذي التأثيرات المضاعفة العالية، مثل تقديم الدعم للفئات ذات الدخل المنخفض والميل العالي إلى الإنفاق، وخفض الضرائب المفروضة على الأثرياء، التي من المرجح أن يتم ادخار جزء كبير منها.
إن إبطاء وتيرة خفض الإنفاق، وتخصيص مساحة للاستثمار في الموازنات الحكومية، والحزم المالية الداعمة للنمو، وتنسيق السياسات الوطنية مع المساهمات المهمة من جانب بلدان الفائض، كل هذا من شأنه أن يمكننا من قطع شوط طويل على طريق مساعدة أوروبا في التغلب على أزمتها في الأمد المتوسط. ولكن من المؤسف أن اليونان أصبحت تشكل حالة خاصة، حالة تحتاج إلى علاج مركز ومحدد، وهو العلاج الذي قد يشتمل على جولة جديدة من الإعفاء من سداد الديون العامة.
ولا بد من خفض أسعار الفائدة هذه من خلال مشتريات البنك المركزي الأوروبي من السندات الحكومية في السوق الثانوية إلى أن يتم الوصول إلى مستويات مستهدفة معلنة منخفضة بالقدر الكافي من تكاليف الاقتراض، و/أو باستخدام موارد آلية الاستقرار الأوروبي. إن أفضل الحلول يتلخص في تعزيز فعالية القناتين باستخدامهما ـ وباستخدامهما على الفور.
ومن شأن هذا النهج أن يوفر المتنفس اللازم لاستعادة الثقة وتنفيذ الإصلاحات في جو من التفاؤل المعتدل وليس اليأس. والواقع أن المخاطر المترتبة على التقاعس عن العمل أو اتخاذ إجراءات غير ملائمة بلغت أبعاداً هائلة.
لم يدمر زلزال قوي أو موجة مد عارمة (تسونامي) القدرة الإنتاجية لدول جنوب أوروبا. بل إن ما نشهده الآن ـ وما يؤثر في العالم أجمع ـ كارثة من صنع الإنسان يمكن وقفها وعكس اتجاهها من خلال الاستجابات السياسية المنسقة.

خاص بــ ''الاقتصادية''
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي