لماذا لا يوجد لدينا مطورون عقاريون؟

هذا السؤال طرحه وحاول الإجابة عنه المهندس سعود القصير المدير العام السابق لشركة دار الأركان للتطوير العقاري في المحاضرة التي ألقاها في الملتقى الذي نظمته الجمعية السعودية لعلوم العقار قبل نحو أسبوعين. مجرد طرح هذا السؤال من هذا الرجل يعكس اعترافا صريحا بهذه المشكلة، وهي حالة شكلت من ناحية عقبة كأداء في سبيل حل أزمة الإسكان في المملكة، علاوة على كونها أصبحت ذريعة لتبني وزارة الإسكان منهج البناء الذاتي والمباشر في مشروع خادم الحرمين الشريفين لبناء 500 ألف وحدة سكنية. المحاضر الخبير عرض عددا من الأمور التي رأى أنها تبرر هذه الحالة الشاذة في سوق يمثل فيه القطاع العقاري ثاني أكبر القطاعات الاقتصادية بعد القطاع النفطي، بما فيها قصور التمويل الموجه لدعم شركات التطوير العقاري، والعقبات البيروقراطية في إجراءات الجهات الحكومية لاعتماد المخططات وتراخيص البناء، وصعوبة المنافسة السعرية مع المطورين الأفراد في ظل ارتفاع التكاليف التشغيلية لشركات التطوير العقاري الكبرى في ظل سيطرة ثقافة الاسترخاص والبناء ''التجاري'' لدى شريحة صغار المطورين، وغير ذلك من المبررات التي لا يمكن أن يختلف عليها اثنان. حديث المحاضر الكريم، على الرغم من صحة ما احتواه، جاء مجددا لموقف إلقاء اللوم والمسؤولية على الآخرين وتبرئة أصحاب القطاع من أي كم من المسؤولية عن هذا الواقع المخل، وهو الموقف السلبي المتخاذل ذاته الذي يتبناه أصحاب أي قطاع من القطاعات الاقتصادية التي تواجه حالات من الخلل الهيكلي فيها. ومع أني أقر بصحة معظم ما ورد في تلك المحاضرة، وحقيقة ضعف الدور الحكومي وقطاع التمويل في دعم شركات التطوير العقاري، إلا أن أصحاب القطاع أنفسهم يتحملون شيئا من المسؤولية في هذا الواقع، خاصة في ظل عجزهم عن تبني أية مبادرات جادة للارتقاء بقدراتهم ومهاراتهم في هذا المجال، وعجز اللجان العقارية عن أداء دور فاعل ومؤثر لمد جسور الحوار البناء والفاعل مع القطاعات الحكومية ذات العلاقة.
إحدى أهم المشكلات التي تسم القطاع العقاري في المملكة هي أن معظم الشركات العقارية تفتقر إلى الاحترافية والتخصص، وهي في معظمها شركات عائلية يغلب عليها الفكر الفردي في الإدارة. غياب التخصص أمر لا يمكن نكرانه، فمعظم الشركات العقارية تخلط بين الاستثمار والتطوير والتسويق والتثمين وإدارة الأملاك، بل تمد يدها أحيانا إلى الأعمال الهندسية والبناء والصيانة وغيرها من الأنشطة التي يفترض أن تقوم بها كيانات متخصصة. حتى الشركات التي رفعت راية التخصص في التطوير العقاري، بما فيها شركة دار الأركان للتطوير العقاري على سبيل المثال، وقعت في فخ الخلط بين استثمار وتطوير الأراضي والمباني السكنية والتجارية والعامة، إلى جانب التسويق والتمويل وإدارة الأملاك وغير ذلك من الأنشطة والخدمات. المشكلة أن معظم تلك الشركات العقارية العائلية تعيش حالة من التشبع في الأموال والأصول العقارية وتحصيل العوائد المجزية السهلة من تجارة الأراضي، وهو ما يجعلها أقل حرصا على خوض ما تعتبره مخاطرات مهنية واستثمارية في قطاعات أكثر عمقا وتخصصا، كقطاع التطوير المتخصص لمشاريع الإسكان على سبيل المثال. حتى الشركات العقارية العامة المدرجة في سوق الأسهم تعيش حالة مماثلة من سيطرة الفكر العائلي والفردي على الإدارة، بما فيها شركة دار الأركان التي استقال محاضرنا المحنك من مهمة إدارتها لتعود إلى أيدي مؤسسيها الأصليين.
المشكلة الأخرى في الشركات العقارية السعودية هي سيطرة النمطية والفكر التقليدي على أعمالها وأنشطتها، بما فيها تلك المحاولات الخجولة في قطاع التطوير العقاري. أنا لم أسمع قط أن أية شركة عقارية، بما فيها شركة دار الأركان، سعت إلى تبني استخدام أنظمة حديثة للبناء بهدف رفع جودة مشاريعها وتقليل مدد البناء وتحجيم الهدر الناتج عن آليات البناء التقليدية ذاتها التي يستخدمها المطورون الأفراد الذين اشتكى من عدم القدرة على منافستهم محاضرنا الكريم. لم أفهم كيف يمكن لتلك الشركات الكبرى أن تكسب هذه المنافسة وهي تستخدم ذات الآليات وذات الأنظمة البالية في البناء. إن تحقيق مكاسب البناء الشامل والجماعي تتطلب توظيف خبرات ومهارات هندسية وتقنية متقدمة تختلف كليا عن نمط البناء السائد في الوقت الراهن. عندما نستطلع نموذج العمل الذي تبنته شركة دار الأركان على سبيل المثال في مشاريعها الماضية نرى أن الشركة خلقت في هيكل عملها مستويات متعددة من الإدارة، بدءا بإدارة الهندسة والمشاريع داخل الشركة، ومرورا بشركة إدارة المشاريع العالمية التي أنهت عقدها بعدما استنزفت مواردها المالية، وانتهاء بمقاولي الدرجة الأولى الذين استعانوا - كما جرت عليه العادة - بشبكة تحتية من مقاولي الباطن، وهلم جرا. هذه المستويات المتعددة من الإدارة كبدت الشركة مبالغ طائلة تم تحميلها بالطبع على تكاليف المشروعات، وهو ما أدى إلى تضخيم التكلفة النهائية وسعر البيع للوحدات السكنية. المطورون الأفراد الذين اشتكى منهم المحاضر الكريم لم يقعوا بالطبع في هذا الخطأ، فهم يقومون بإدارة مشاريعهم بقدراتهم الذاتية، وهو ما جعلهم أكثر قدرة على إنتاج وحدات سكنية أقل تكلفة وأكثر تنافسية. والمشكلة أن نوعية المنتج ومستوى جودته لم يختلف في الحالتين، بل إنها تتفوق أحيانا في حالة المطورين الأفراد عليها في حالة الشركات العقارية.
أختم بالتعليق على جانب أورده المحاضر الكريم في معرض حديثه عن مبررات غياب شركات التطوير العقاري، وهو جانب التمويل. والحقيقة، أن سوق التمويل، على الرغم من القصور الذي يسمه بشكل عام، إلا أنه يعيش حالة من الازدهار التدريجي المتصاعد منذ إطلاق نظام الصناديق العقارية تحت مظلة هيئة سوق المال، هذا إلى جانب قيام بعض البنوك بتوسيع مساهماتها في قطاع التمويل العقاري. المشكلة أن الشركات العقارية، انطلاقا من حالة النمطية والتقليدية التي تعيشها، قاومت بكل ما ملكت من قوة تبني هذه الوسائل والحلول التمويلية، محاولة إعادة الحياة للمساهمات العقارية التي نظمتها وزارة التجارة تنظيما خانقا مميتا. والحقيقة التي ربما لا يعيها أولئك العقاريون هي أن آليات التمويل عبر الصناديق العقارية لا تحقق فحسب توزيع المسؤولية في إدارة حقوق المساهمين والمستثمرين، بل إنها علاوة على ذلك تؤسس دورا رقابيا فاعلا يسهم في الارتقاء بجودة المنتجات العقارية، خاصة على مستوى شركات الرهن العقاري التي تمثل حلقة الربط بين المطورين من جهة والمستهلكين من جهة أخرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي