د. وفاء القرطاس نموذج مشرف
سكنت سابقا في حي مميز، الحي عبارة عن خليط من جميع أنحاء المملكة، وكذلك من جميع أجناس اﻷرض، سواء أكانوا سعوديين أم غير سعوديين، وكان فيه الكثير من الأمور الإيجابية المميزة، إلا أنه من وجهة نظري، كان أكثر ما يميز هذا الحي هو طبيبة مركز الحي:
الدكتورة وفاء عيسى القرطاس، طبيبة عامة، تعمل في مركز الحي منذ إنشائه، لمدة تجاوزت العشرين عاما، وهي مثال رائع للطبيبة السعودية المكافحة، التي أبدعت في مجال صعب الإبداع فيه، فالمركز الصحي في نظر بعض الأطباء هو مقبرة للمهنية، فالكل يفضل أن يكمل دراسته ويتخصص، ومن ثم العمل في مستشفى تخصصي، لذا فإن بعض اﻷطباء يظنون أن المركز الصحي إن دخل أحدهم من بابه خرج الإبداع والإخلاص من باب آخر، لشدة ضغط العمل وكثرة المراجعين، ولأن الهدف من تأسيسه هو تقديم خدمة، قد لا يطمح لها الطبيب المختص، كان بالإمكان ﻷختنا الدكتورة وفاء أن تتخصص، ولكنها آثرت أن تبقى عند والديها برا بهما، وحتى تستطيع رعاية صغيرها.
ولنر كيف كان إبداع طبيبتنا، كانت تعمل بمفردها: مؤسسة خيرية، دعوية، تثقيفية، تربوية، وطبية في شخص واحد.
عملت بإخلاص وتفان وفي ظروف صعبة، ربما تسمع للأسف شعارات لبعض الموظفين، ممن بدؤوا بحماس وإخلاص، ثم على مدى سنوات من بيئة عمل محبطة، أحبطوا، وبدؤوا يطلقون شعارات تنم عن استيائهم قائلين: نعمل على قدر رواتبنا، (حين يوفرون لي وسط عمل مريحا سأعمل وإﻻ سأكون بطالة مقنعة). الدكتورة وفاء اختارت في مثل هذه الظروف أن تعمل وتعمل ولم تكل طوال هذه السنين، لقد حاولت وما زالت تحاول أن تطور من مركزها، وأن تقدم له الأفضل، فإن اصطدمت بعائق، توقفت، وبصمت، ودون تذمر، وتحولت إلى طريق آخر لعله يُفتح فيه باب للتطوير، لم أسمع منها قط العبارات التي يرددها الآخرون (أين دور فلان أو فلان؟!!)، بل دائما تجتهد بماذا يمكن أن تقدم هي، يحبها في الحي الصغير والكبير دون استثناء، إلا أن أكثر فئة تحبها في الحي، هن عجائز الحي، فهي تعاملهن بحنان وعطف شديدين، ولا تقبل كبيرة السن رأي أي استشاري مهما علت مكانته العلمية إلا بعد أن تستشير الدكتورة وفاء، فهن يثقن برأيها ثقة عمياء، ويرفضن إجراء أية عملية قبل موافقة الدكتورة وفاء، ويرينها تقرير العملية بعد إجرائها لتفتي لهن بنجاح العملية من فشلها، وهي دائماً تشجعهن وترفع من معنوياتهن مهما كان وضعهن الصحي حرجا، وتحرص على زيارة بعضهن في بيوتهن لتهنئهن على سلامتهن، ويا لفرحة كبيرة السن التي تظفر بزيارة من الدكتورة وفاء وكأن ملكا بجلالة قدره زارها، بل بعض الكبيرات رفضن الانتقال من الحي؛ لتعلقهن بحسن معاملة الدكتورة وفاء.
تحاول الدكتورة وفاء أن تقدم الخدمة الطبية لكل مراجع مهما تعرقلت أمور تسجيله، أو ضاع ملفه، ذلك الجانب الممل في العمل في المركز الصحي. وتحاول المساعدة ووفق القانون، وتحاول إيجاد بدائل أخرى، لمن لم تتمكن من علاجهم، إنها تدير مؤسسة خيرية بمفردها، تجمع الأدوية المستغنى عنها أو الأجهزة الطبية وتعطيها للمحتاجين من أهل الحي.
تعرف الحي أسرة أسرة، وتعرف أمراضهم، وتحفظها عن ظهر قلب، وتعرف ظروف كل أسرة، إلا أنها تحافظ على أسرار مرضاها، ولا تبديها لأحد، تحاول تحسين بيئة العمل، وحل مشكلة العاملات معها حتى لو كن غير سعوديات وتسعى إلى مساعدتهن قدر ما تستطيع، تعرف فقراء الحي وتحاول أن تساعدهم بمالها الخاص، أو مال أهلها، أو من مال أثرياء الحي، تساهم في حل المشكلات الاجتماعية المتعلقة بالصحة كغياب الطلاب، بل إن بعض المراجعات يبثثن الشكوى لها حتى بمشاكلهن العائلية التي كانت سببا في تدهور صحتهن، فتقوم بنصحهن والتخفيف عنهن، ساهمت في الحملات التثقيفية، وحاولت توفير تمويلها، وتعاونت مع جامع الهدي المتميز، جامع الحي، وإمامه النشيط الشيخ محمد الخميس. تتبرع الدكتورة وفاء كل عام بالعمل في الحج ﻹحدى الحملات. وحين تتساءل من أين لها كل هذا؟! تعرف أن الطبيبة هي من نسل بيت علم وخلق ودين وزهد، تقلد إخوتها مناصب لو أن بعض الناس تقلدوها لاستأثروا من ورائها، ولكن منعهم من هذا الثراء مخافة الله والزهد في الدنيا الفانية.
لم أر في زماني امرأة جمعت الخير كله مثل الدكتورة وفاء القرطاس، فهي ابنة بارة وزوجة وفية توفي عنها زوجها الدكتور مازن نوري الدول ذلك الطبيب المخلص الذي وافته المنية في أول زواجه فنذرت حياتها لولدها الوحيد، فكانت اسما على مسمى، وهي كذلك مواطنة صالحة وطبيبة مبدعة، جمعت كل هذه اﻷمور فلله درك.
ذكرتها ولم أستأذن منها، ليقيني أني لو استأذنت مسبقا، لرفضت بشدة لزهدها وتواضعها، ذكرتها لأري قومي نماذج من نساء بلدي نتشرف بوجودهن، نماذج من طبيبات أخلصن العمل لله، لا يردن جزاءً ولا شكورا.
نماذج لا يصلن إلى اﻹعلام والإعلام غافل عنهن، نماذج يستحققن التكريم، ذلك التكريم الذي حاز به البعض وغاب عنه الكثير، لو كانت بيدي جائزة نوبل يا دكتورة وفاء لمنحتك إياها.
لكن عزاءنا أن الله لن يغفل عن تكريمك.