نحتاج إلى تحقيق الرسالة .. ونخاف نهاية الإسفنجة!
كثيرا ما أتأمل في الخلوات التي كان يقضيها النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ قبل بعثته في غار حراء وفي غيره، هذه الخلوات التي كان يبتعد فيها عن ضوضاء المدينة (وما كان فيها آنذاك ضوضاء تذكر) ويتخفف من كل ملهيات الحياة ويبتعد عن الناس ويجلس وحده في تأمل وتدبر. ما الذي كان يدور في خاطره المبارك في تلك الأوقات؟ وكيف ساهمت هذه الخلوات في إعداده ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ لتلقي الوحي وحمل الرسالة الخالدة؟
البحث في أغوار النفس وتلمس حقيقتها هو رحلة ممتعة مثيرة لا غنى لطالب السعادة والنجاح عنها، ولكن أنى لنا أن نتأمل في ذواتنا ونبحر في أعماقنا ونحن نتعرض لهذا الطوفان من المشتتات والملهيات التي تكتنف حياتنا؟
ما الذي نحتاج أن نتخفف منه إذن لنمارس هذه التجربة؟
ـــ نحتاج لأن نتخفف من الأفكار السلبية التي تحبطنا وتقعدنا وتشلنا، القلق المزمن من كل شيء وعلى كل شيء، حتى وإن كان خارج إطار سيطرتنا، التفكير المبالغ فيه في المستقبل والاحتمالات، توقع الأسوأ دائما، التركيز على الجوانب المظلمة في كل شخص وفي كل تجربة. إن من يستسلم لهذا التفكير سيصاب بأكثر إعاقة يمكن أن تصيب إنسانا. ولذلك فلنقاوم هذه الأفكار كما نقاوم نغزات الشيطان.
ـــ نحتاج أيضا أن ننظف قلوبنا من الحقد والحسد والضغينة. لا يمكن لقلب أن يشعر بالسعادة الحقيقية وهو مليء بهذه المشاعر المسمومة. ولذلك وصف القرآن القلب الفائز الناجي بأنه ''قلب سليم''. قرر من اليوم أن تعفو عن الجميع مهما حصل وترسل لهم باقة حب ودعوة صادقة ولا تحمل في قلبك على أحد شيئا فإن الحقد أول ما يحرق قلبك أنت.
ـــ نحتاج أيضا أن نبعد بقدر الإمكان عن الأشخاص السلبيين المثبطين. هؤلاء يسلبون طاقتك ويمتصون قدرته ويصيبوك بالإحباط. هؤلاء بدلا من أن تستسلم لطاقتهم السلبية حاول أن تضيء لهم شمعة أمل فإن كل ظلام الدنيا لا يمكن أن يمنع ضوء شمعة كما قيل.
ـــ نحتاج أخيرا أن نتجنب التفاهات والفضول الذي يأخذ الوقت وينتزع منه البركة، فيشتت الذهن ويعكر المزاج ويضيع العمر ويأخذ الإنسان بعيدا عن دائرة تأثيره وما استأمنه الله عليه وكلفه به إلى مجاهل ليس له فيها أي تحكم أو تأثير.
يقول ابن القيم رحمه الله: ''كنت أورد على شيخ الإسلام ابن تيمية بعض الإيرادات، فقال لي: لا تجعل قلبك للشبهات والإيرادات مثل الإسفنجة يتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر بها''. ما أبدع هذا التشبيه. وأبدع منه القاعدة النبوية الذهبية ''من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه''.
عندما طلبوا من مايكل أنجلو الفنان الإيطالي الشهير أن ينحت لهم تمثال (ديفيد) قام بعمل عظيم حقا، أتى بقطعة رخام كبيرة وأخذ يتأمل في الصورة النهائية التي يريد أن يكون شكل (ديفيد) عليها، ثم بدأ ينحت، لكنه لم يفعل ذلك بأن نحت (ديفيد)، إنما نحت كل شيء عدا (ديفيد)، أي أزال من قطعة الرخام كل ما هو ليس من الصورة التي تصورها لتمثاله، فكانت قطعته الفنية الرائعة.
هذا بالضبط ما نحتاجه، نحتاج أن ندرك بعد تأمل عميق لأنفسنا ماذا نريد من هذه الحياة، وما هي رسالتنا فيها، وأن نركز جل طاقاتنا وفكرنا وإبداعنا فيما يساعدنا لأن نحقق هذه الرسالة بصدق وإتقان، وأن ننحت بعيدا عن حياتنا بقدر المستطاع كل ما يشتتنا ويبعدنا عن رسالتنا وأن نكون كالنهر الهادر إلى هدفه بهمة وعزيمة وتصميم وليس كالإسفنجة تتشرب كل ما يمر بها وتنتهي في النهاية إلى أن تعصر بما تشربت به.
الخيار لنا اليوم وكل يوم.