الخبيئة والخبايا !!
يقولون أن الحق يحتاج لرجلين: أحدهما ينطق به والآخر يفهمه، وما تخبئهُ نفوس البشر يعلمه الله ، فمن أنا ومن أنتم حتى نخمّن ثم نجزم ونؤكد على ما في قلوب الناس وضمائرهم ؟ هو وحده من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. إلا أن رؤية الحق وتصديقه والدلالة على صاحبه هو قمة الشجاعة التي يجبن عنها البعض ويتسنم صهوتها القليلون في حياتنا ومجرياتها. إن النية التي تكمن في الأعماق وتسترخي في قرارة النفس ثم تتحول إلى فعلٍ نخبؤه عن عيون الناس ونفعله فقط مرضاةً للخالق ، هي مايسمونه بالخبيئة.
أما ما يعبر عن خبايا النفس، فنراه في تقسيمات الوجه والملامح وحيرة العيون وتجليات العقل الباطن والحركات اللا إرادية للمتحدث. فإن صمتت الشفاه تتكلم الايماءات، ويخون الشخص نفسه عبر جميع خلاياه ، ويتوه (المتلقي) بين دهاليز المكر والخبث والخديعة أو بين الطهر والنقاء وسلامة الطوية.
يتبادر إلى ذهني كالومض كل ما سبق حينما أنظر إلى وجوه أناسٍ ليس بها تعابير (وهم كثيرون في بيئة العمل وفي الحياة من حولنا)، لغتهم الوجوم والتوهان (والبحلقة) ومن ثم تصنّع الابتسام وترديد ذات الكلام والرحيل بلا أثر، تاركين خلفهم علامات تعجب وألف علامات استفهام. (فمبدأ لا أريكم إلا ما أرى...) يعبر عن فقر الكلام في حالتين أما من كثرة الخوف أو من الحزن . أوضاعهم النفسية تدلل على الرفض وإنكار الواقع والتناسي بأننا كبشر نملك القدرة على سماع من 650 إلى 700 كلمة في الدقيقة ! وأننا نستطيع أن نتكلم من 150 إلى 160 كلمة في الدقيقة ، وأن وجوهنا تنتج 250.000 إيماءة ، وأيدينا وحدهما 5000 حركة مختلفة وفق أحدث الدراسات. وأننا مع الزمن وكثرة التعامل مع الناس صرنا لا نكترث للكلمات، بل نقتنص رسائل ما بين السطور وثنايا الجلد والغمزة والسقطة والهفوة ، فنضم المخلص النقي إلى الحنايا ونحتضن كل ما في الآخرين من رقي وإنسانية، ونرفض الغامض (ذو الوجه الجامد) لأننا لا نثق في الخبايا التي لايتطابق فيها القول مع القلب.
والتساؤل هنا إن تجاهلنا اللغة المنطوقة لهؤلاء البشر، فكيف سنتواصل معهم من خلال اللغة غير المنطوقة (الإيماءات أو الإشارات أو الحركات الجسدية) ؟ وإذا افتقر هؤلاء لما أعلن عنه داروين (الإيماءات الوجهية الدولية الخمس التي تشترك فيها أجناس الأرض قاطبةً ..البكاء، الضحك، الابتسامة، التقزز، الحزن)، فكيف بالله عليكم سنتواصل ونتعارف ونأتلف؟ وأي نوع يرجونه من الودّ والثقة وصلاح العلاقة ؟ فقد أثرتّ في أصحاب الوجوه الجامدة أساليب التربية والنشأة و زرعت فيهم الخوف من الإدلاء بالرأي أو القدرة على التعبير ، أو قد يكون هؤلاء غير واعين بطريقة التواصل ويحتاجون إلى تدريب على التعبير وإدراك الأهمية. وعلى النقيض نجد في الوجوه المعبرة (الأريحية) لأن الشخصيات الواضحة التي لا يختلف مكنونها عن ظاهرها تدلي بما في خاطرها دون مواربة، وشتّان بين هؤلاء وهؤلاء ! إن عدم الالتفات إلى أهمية التعبير بلغة الجسد لدى البعض يُحدث اشكاليات كثيرة في حياتنا اليومية، فالتواصل من الأهمية مثلاً في الإدارة وفي العملية التعليمية وفي السياسة والأعمال والتسويق وفي العلاقات الاجتماعية وحتى بين الزوج وزوجه والأب والأبناء. فكيف يُختزل وعي المتلقي وفهمه وقد أصبح المجتمع عالمياً مفتوحاً نحتاج فيه إلى التواصل بطرق أكثر دقة ووعياً؟
إن الحرص على التواصل الجيّد سيجعل المتلقي آمناً من غدر (الخبايا) وسيعذر قصور التعبير باللغة غير المنطوقة، وسيصل لمراحل أرقى في المعاملة وفاءً للخير الذي سيبقى على وجه الأرض ، ولا نملك أمام هؤلاء النوعية من البشر إلا المداومة على فعل الخبيئة ، علّ وعسى أن يهدي الله (القلوب الغامضة) . فما ذنبنا الذي ارتكبناه لتتقافز الحيرة كالبهلوان أمام أعيننا ! وكيف بالله سنفسر الريبة ووهن الثقة بالظن ، وبعض الظنّ إثم وليس كله آثام !! خبيئتي أصرّح بها (علّ وعسى).... إنه الدعاء ( والدعاء بظهر الغيب) صنيعي الدائم لهم ، فأنا أحزن لشقائهم ولفقدانهم القدرة على التعبير عن المشاعر، أو لاختيارهم التلون والتشكل لإخفاء الدفين من الأحاسيس ظناً بأن الدنيا مملوءة بالغادرين ... فكيف بالله بعدها لا يكونوا مساكين ؟
قد أكون نطقت بالحق ولكني دوماً أرجو من الله أن أجد الذي (يفهم) ..
اللهم إغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ....واجعلنا ممن يتودد إليك بالإحسان إلى عبادك.. لا تنسوا فعل الخبيئة...