من أين وإلى أين يا إيران؟

الكل يدرك حجم الضغوط التي ظلت تمارس على النظام الإيراني خلال السنوات الأخيرة بسبب البرنامج النووي الذي يتبناه، وفي خضم تلك الضغوط وتداعياتها السياسية والاقتصادية، تبادر إلى ذهني تساؤل مهم: لماذا كل هذا التوتر والانزعاج؟ فالبرنامج النووي تُطبقه دول كثيرة دون أن تُعارض من أي دول أخرى، ودون أن تُمارس عليها ضغوط، أو تفرض ضدها عقوبات، فما الذي يُميز إيران عن غيرها، ولماذا هذه الضجة الكبرى؟
الإجابة يمكن استنباطها من خلال لمحة تاريخية وآنية للوضع الإيراني بمجمله، كيف كان؟ وماذا صار؟.. كانت إيران في سبعينيات القرن الماضي، دولة ملكية يتربع على عرشها الشاه محمد رضا بهلوي، وعُرف الشاه بعلاقته المتميزة مع أمريكا، ومساعيه التغريبية الجادة والواضحة، وفي عام 1978 انطلقت في العاصمة طهران سلسلة مظاهرات احتجاجاً على توجه الشاه وسياسته الاقتصادية، ازدادت حدتها حتى تحولت إلى ثورة استطاعت أن تعزل الشاه في العام التالي، ومن ثم تغير دستور البلاد.
ويوكل الدستور الإيراني الحالي مهمة تعيين المرشد الأعلى إلى خبراء القيادة المنتخبين من قبل الشعب، ويشترط في القائد الأعلى أن يكون اثني عشريا قبل انتخابه، ووفقا للدستور، يسيطر المرشد الأعلى على السلطة التشريعية في إيران، ومن صلاحياته عزل رئيس الجمهورية، إذا رأى أن ذلك يحقق مصلحة الوطن.
أما رئيس الجمهورية، فهو ينتخب عن طريق الشعب، ولكن قبل أن يرشح نفسه يجب عليه أخذ موافقة السلطة التشريعية، وفي حال موافقة السلطة التشريعية وفوزه في الانتخابات، يكون بالتالي مسؤولا عن السلطة التنفيذية في الدولة.
رئيس الجمهورية الحالي، محمود أحمدي نجاد، لم تكن لديه الخبرة الكافية في الانتخابات قبل توليه الرئاسة، فهو حاصل على دكتوراه في الهندسة، وقد انتخب مباشرةً، دون أن ينتخب رئيساً لبلدية إيران، قبل توليه رئاسة الدولة، وفي حملته الانتخابية، كان يجاهر بانتقاده الحاد لأمريكا، ولمبدأ حق الفيتو، وردد كثيرا أنه ضد تأسيس علاقة مع أمريكا في حال فوزه، ومن عباراته التي جلبت التفاؤل لناخبيه قوله: إن أموال النفط ستكون للفقراء والمساكين في الدولة، وفي عام 2005 تم انتخابه رئيسا للبلاد وكان تقبيله يد المرشد الأعلى خامنئي يمثل تقديراً لثقته به.
ومنذ توليه الرئاسة، أصبح أحمدي نجاد من أكبر المدافعين عن البرنامج النووي الإيراني، وأصر على أن يكون البرنامج مخصصًا للأغراض السلمية، وأكد مرارًا أن صنع قنبلة نووية ليس من سياسة حكومته، ويقول: إن مثل هذه السياسة ''غير قانونية ومخالفة لديننا''، وفي لقاء لأحمدي نجاد عام 2008، قال: ''إن الدول التي تسعى للحصول على الأسلحة النووية دول متخلفة سياسيًا''.
وعلى الرغم من التطمينات الإيرانية، والإعلان عن سلمية البرنامج، لكن أمريكا لم تخف قلقها الواضح من برنامج إيران النووي، مبررة قلقها بعدة عوامل، منها التصريحات الانتخابية للرئيس الإيراني، إضافةً إلى حرصه على تطوير صواريخ طويلة المدى، وكذلك تصريحه الناري عن إسرائيل في 2005 بقوله: ''محوها من الخريطة''، وبدأ القلق الأمريكي يتزايد مع مرور الوقت، وأخذت واشنطن تهدد بالعقوبات تارة، وبالتدخل العسكري تارة أخرى.
في ظل هذه المخاوف والتوترات، يخوض الرئيس الأمريكي باراك أوباما سنة انتخابية مهمة، لا يديرها، بالطبع، من واقع الشارع الأمريكي، بقدر ما يديرها من المعطيات على المسرح الإيراني، وهو يدرك تماما أن إبداء أي تراخ أو تردد حيال الملف النووي الإيراني سيترك أثرا سلبيا على حملته الانتخابية. لذا قام بوضع قانون يعاقب كل مؤسسة مالية تعمل داخل أمريكا يثبت تعاملها مع البنك المركزي الإيراني بعد تاريخ 28 حزيران (يونيو) 2012. وقالت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون: سيكون قريبا من الواضح ما إذا أعد قادة إيران مناقشة ذات مصداقية، للبدء في بناء الثقة التي نحتاج إليها للمضي قدما ''قاصدة بهذا التصريح الاجتماع المقبل في 13 نيسان (أبريل) مع الحكومة الإيرانية''.
وفي حال توجيه ضربة عسكرية أمريكية لإيران، وفقا لهذه المعطيات، ستترتب على ذلك عواقب اقتصادية وخيمة لكلا الدولتين.
من العواقب التي يمكن أن تترتب على إيران، في حال تصعيد الأمور في هذا الاتجاه، حرمانها من استخدام شبكة سويفت العالمية، التي عن طريقها تنفذ الحوالات المالية من وإلى الدولة، وبالتالي ينخفض الطلب على الريال الإيراني، ويضغط على سعر صرفه بالانخفاض. إضافة إلى ذلك، سينخفض الطلب على النفط الإيراني، الذي غذى ميزانية إيران بنحو 100 مليار دولار في عام 2011، وانخفاض العملة مجتمعا مع انخفاض الطلب على النفط الإيراني سيترتب عليه كساد وتضخم في الاقتصاد، وهذا السيناريو الاقتصادي يؤثر على الشعب بشكل كبير ومباشر، حيث يقود إلى خفض دخل المواطن، وارتفاع أسعار السلع، وتدهور المستوى المعيشي.
أما العواقب التي ستترتب على أمريكا، في حال تنفيذ هذا السيناريو، أبرزها إغلاق مضيق هرمز الذي تمر عن طريقه نسبة كبيرة من النفط العالمي، وسينتج عن ذلك هلع واضطراب في أسواق النفط، حتى لو قامت المملكة العربية السعودية بتغطية العجز الذي ينتج عن توقف إنتاج إيران للنفط بالكامل، واستخدمت الدول مخازنها النفطية، فليس من المؤكد أن يؤدي ذلك إلى انخفاض في الأسعار، فالقلق محفز قوي للمضاربين لشراء النفط، ورفع سعره، بغض النظر عن الكمية المتاحة، والطلب الحقيقي، مستغلين في ذلك العوامل الجيوسياسية.
وفي حال وصول أسعار النفط إلى 150 دولارا للبرميل، كما هو متوقع في حال تصعيد الأوضاع، فالاحتمالات تشير إلى أن الاقتصاد الأمريكي سيخسر 2 في المائة من ناتجه المحلي وسيتراجع من مرحلة التعافي البطيء إلى مربع الكساد مرة أخرى.
في الختام بقي أن أقول: طالما أن الموقف الإيراني يراوح مكانه في التمسك بالبرنامج النووي، وكذلك التهديد الأمريكي، فإن الساحة تظل مفتوحة أمام كل الاحتمالات، ولطالما السياسية اليوم هي التي تؤطر حركة الاقتصاد فإنها، في هذه الحالة، حتما ستقود الوضع في اتجاه المزيد من التوتر، إن لم نقل التصعيد السريع، وسيدفع الاقتصاد ثمن السياسة لدى كلا الطرفين، والعجيب في الأمر أن الطاقة النووية عادةً تلجأ إليها الدول التي تعاني نقصا في النفط، فلماذا هذا الإصرار في الاستمرار بغض النظر عن العواقب؟ في حين أنه مع قليل من السياسة وبعض من التنازل من طرف الرئيس الإيراني يمكن حماية اقتصاد البلدين واقتصادات المنطقة بأسرها من أي انهيارات محتملة، وبإمكانه أيضاً الوفاء بوعده بوضع الطعام على مائدة فقراء إيران من الإيرادات النفطية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي