محاصرة أكبر وأقوى لـ "اقتصاد الظل" محليا

يشكل "التستر التجاري" محليا ما تعارف الاقتصاديون على تسميته بـ"اقتصاد الظل"، الذي يتكون من نشاطات الاقتصاد غير المسجلة في الاقتصاد الرسمي كمفهوم نظري. وعمليا، جاءت تحت مصطلح "التستر التجاري" في الاقتصاد المحلي كثير من نشاطات الاقتصاد بصورة مخالفة، بتغطية وهمية لملكية النشاط باسم مواطن أو مواطنة، بينما الملكية الحقيقية والإدارة تكون بيد وافد، رغم أن الإصلاحات العملاقة تحت مظلة رؤية السعودية 2030، أتاحت كل الفرص أمام ذلك الوافد لتملك وإدارة مشروعه الاستثماري وفق القنوات الرسمية، إلا أنه للتهرب من كثير من الأنظمة والقرارات والأعباء المالية المشروعة، سولت له أطماعه بالتواطؤ مع المواطن/المتستر الاستمرار في طريقهما المظلم، رغم تجريمه الشديد والعقوبات الوخيمة المترتبة على ارتكابه، ورغم آثاره السلبية جدا في الاقتصاد الوطني وبيئة الأعمال المحلية والمجتمع على حد سواء.

معلوم أن "التستر التجاري" كان واحدا من أكبر التحديات التي واجهت الاقتصاد الوطني طوال أكثر من أربعة عقود مضت ولا تزال كذلك، ولم تبدأ المواجهة الحقيقية معه إلا بعد إنشاء "البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري" قبل أكثر من خمسة أعوام، الذي أصبح الجميع يرى جهوده المشكورة تتكرر خلال فترات وجيزة بالكشف عن متورطين جدد في هذه الجريمة الاقتصادية. وحتى يدرك القارئ الكريم خطورة ما يجري الحديث عنه، فوفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي عن "اقتصاد الظل" في 158 بلدا حول العالم خلال 1991-2015، قدر متوسط قيمته في جميع تلك البلدان بنحو 31.9 % من الناتج المحلي الإجمالي، وجاء متوسطه الأدنى لدى الدول التي تعاني "اقتصاد الظل" عند 8.1 % من الناتج المحلي الإجمالي، بينما وصل متوسطه الأعلى عند مستويات مرتفعة جدا وصلت إلى 62.6 % من الناتج المحلي الإجمالي.

وبإسقاط متوسط المعدلات الأدنى والمتوسط العام (8.1 % - 31.9 %) على النشاط الاقتصادي المحلي، فهذا يعني تأرجح حجم اقتصاد الظل "التستر التجاري" بين 325.6 مليار ريال إلى نحو 1.3 تريليون ريال بناء على الناتج المحلي الإجمالي 2023، ما يحمل معه كثيرا من الآثار السلبية الاقتصادية والمالية والاستثمارية والاجتماعية، بدءا من تقليص النمو الاقتصادي والوظائف مرورا بالتهرب الضريبي وفقدان متحصلات ضريبية لمصلحة الميزانية العامة، والتسبب في تشوه بيئة الأعمال المحلية والإضرار بكثير من المنشآت نتيجة غياب المنافسة، والاستحواذ دون حق مشروع على حصص من السوق المحلية، عدا توريد كثير من المنتجات والخدمات غير المطابقة للمواصفات والأنظمة وضخها بصورة مخالفة إلى السوق المحلية، وصولا إلى الإضرار بالمستهلكين بشرائهم لتلك المنتجات والخدمات الرديئة وغير المطابقة.

تقتضي المواجهة القصوى لتلك الآفة الاقتصادية ممثلة في "التستر التجاري"، تحقق التضافر الأكبر بين كل الجهود الحكومية مع الجهود المجتمعية، والعمل المستمر والدقيق للقضاء على "داء عضال" طالت حياته لأكثر من أربعة عقود من الزمن وسط أحشاء الاقتصاد، وقف وجوده واتساع نشاطاته طوال تلك الفترة خلف كثير من التشوهات الهيكلية محليا، وأصبحت في مرمى الإصلاحات الشاملة لرؤية السعودية 2030، ولا بد من القضاء التام عليه لتتحقق المستهدفات الإستراتيجية للرؤية، وللدفع بمقدرات الاقتصاد الوطني والمجتمع نحو تحقيق النموذج المستهدف لهما بحلول 2030، والتأكيد هنا على أنه لا يمكن لأي اقتصاد أن يتعافى أو يكون مؤهلا للنمو المستدام، وفي أحشائه مثل هذا الداء الخطير، الذي لا تقف أخطاره عند مجرد امتصاص مكتسبات الاقتصاد، بل تمتد إلى بثه لأسوأ الآثار السلبية عموما في جسد الاقتصاد والمجتمع على حد سواء، ما يؤكد بدوره أن محاربة "التستر التجاري" واجب وطني تقع مسؤوليته على كل مواطن ومقيم في هذا الوطن الطموح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي