يا جماعة .. ارحموا المنهج
كثيرة هي الكتابات التي ناقشت مناهج التعليم من حيث الجودة والمحتوى واكتظاظها بالحشو، فضلا عن نمطية الحفظ والتلقين حتى لم يبق فيها مزيد من القول، مع أن الأمر لا يقتضي سوى اختيار منهج بلد متقدم من الشرق أو الغرب وترجمته كما هو دون معركة الاقتراح بحذف أو إضافة، طالما العلوم لا جنسية لها فهي محصلة التقدم الإنساني وطالما أن مناهج تلك الدول قد صعدت بطلابها إلى سدة الرقي سواء في اليابان وكوريا أو في الولايات المتحدة وألمانيا مثلاً؟ أما بالنسبة لمواد اللغة والدين فلتتول الحصافة تركيزها بما ينسجم مع هويتنا الثقافية والروحية وفي ضوء العصر أيضا.
وإذا كانت هذه المعضلة ما زالت كأداء أمام متخذي القرار في وزارة التربية والتعليم أو وزارة التعليم العالي، فإن المنهج يجابه أيضا بحالة غريبة عجيبة تستهدفه بالإصرار على ضرورة تضمينه جميع ما هب ودب من إرشادات وعظات وتعليمات وتنبيهات توعية عن كل ما نواجهه في شؤوننا التنموية الاجتماعية والاقتصادية، كان آخرها مطالبة رئيس هيئة مكافحة الفساد، في زيارته لجامعة الملك سعود، بتدريس ما يتعلق بحماية النزاهة ومكافحة الفساد، ولقد دهشت كثيرا من أن أحداً من الأساتذة لم يدافع عن المنهج من أنه ليس "حاوية اقتراحات" لكن يبدو أننا استمرأنا ذلك، فقد ظل منهجنا التعليمي العالي والعام على الدوام مستهدفا، فهذا يريد تضمينه توصيات عن الحفاظ على البيئة وآخر عن الأمن والسلامة وثالث عن آداب المرور والسلوك في الشارع ورابع عن احترام العادات والتقاليد وخامس عن حماية المنجزات وسادس عن الإرهاب والمخدرات وسابع عن السياحة وثامن عن ترشيد الماء والكهرباء وتاسع وعاشر... إلخ، وإنه لمن المؤكد أن كل الوزارات والهيئات ومؤسسات القطاع الخاص ترغب في تضمينه عبارات إعلامية توعوية عن مهامها ورسائلها.. وهي رغبة تتردد في منتدياتنا وفعالياتنا وكأن المنهج فعلا "حاوية اقتراحات" و"مكب" هواجس وتهيؤات العام الخاص!
إن هذا "الاستسهال" في حشو المنهج بكل ما يعن على البال يحيله إلى "ركام غث" من النصوص الإنشائية تكرس النفور أكثر مما تؤدي إلى تعميق الوعي وتوسيع مساحته في الأذهان .. فالرغبة في التوعية ينبغي ألا تقحم إقحاماً فظاً على المنهج، وقد كان لنا في تجربة مادة التربية الوطنية مثال صارخ على ثقل وطأتها حين تم التعامل معها على أنها مادة من المواد!
فلنعفِ منهجنا التعليمي من فزعاتنا ونخواتنا لتكديسه بمزيد من التوصيات والتنافس في "حقن" أبنائنا وبناتنا بفرمانات "يجب" و"المفترض" و"لا بد" بحجة توعيتهم، فطلاب اليوم وطالباته لم يعودوا أولئك المغيبين عما يحدث في بلدان العالم فكيف بما يحدث في بلادهم؟ فهم جيل ثورة تقنية الاتصال الهائلة، وعلى درجة من الذكاء والإدراك والحساسية لا يقبلون معها معاملتهم وكأنهم طرشان وعميان وبلهاء(!!) إنهم يريدون منا فقط أن نحترم عقولهم فهم جيل يشمئز من اعتبارهم قاصرين لا بد من الأخذ، بأيديهم .. فهل نعفيهم من تقزيمنا لهم ونفكر معهم بدلا من التفكير نيابة عنهم؟!
وإني لأخالهم يصرخون بنا: اعفونا ـــ أيها السادة والسيدات ـــ من استهدافكم وإرغامنا على أن نتجرع "تضمينات" ما تتخيلون أننا لن نكون مواطنين صالحين دون إرغامنا على ازدراده .. ومعهم أقول: أجل .. ارحموا المنهج من هوسة حشوه بما هو ليس مكاناً له وإنما مكانة الحوار مع المعلم في الصف ومادة التعبير والمكتبة والأنشطة اللاصفية إن كان ما زال فيها رمق!