ارتفاع الأسعار بين واقعية التشخيص وفاعلية آليات المواجهة
من المؤكد أن مشكلة ارتفاع الأسعار أصبحت على قمة اهتمامات القيادة السياسية في المملكة، وذلك بعد أن أصبحت تحتل الصدارة في حديث معظم أبناء الوطن، وأصبح حديث الأسعار هو الشائع في المجالس والحوارات اليومية للمواطنين والمقيمين، كما باتت هذه المشكلة تحتل مساحة كبيرة من الإعلام السعودي، وهذه الشكوى العامة من ظاهرة ارتفاع الأسعار ليست حالة مفتعلة، كما أنها ليست وليدة اليوم، وإنما هي ظاهرة قديمة متجددة يعانيها المستهلك والمنتج والتاجر والمصدر والمستورد، وذلك لأن الجميع في النهاية مستهلك. ولا يختلف أحد حول أن هذه المشكلة تحتاج إلى دراسة واقعية تستند إلى البيانات الفعلية دون اتخاذ مواقف وقناعات مسبقة قبل الدراسة، وذلك حتى تأتي آليات مواجهة هذه المشكلة عملية وواقعية ومتوافقة مع السياسات الاقتصادية الكلية للمملكة، ولا يكون لها آثار جانبية، بمعنى ألا يكون التخفيف من حدة ارتفاع الأسعار على حساب قضايا اقتصادية أخرى مثل زيادة الإنتاج، وتوسيع مجالات الاستثمار، وتوفير فرص العمل، وعرقلة حرية التجارة، وضمان الجودة للسلع والخدمات التي يستهلكها المواطن السعودي.
والأمر الذي يمكن رصده خلال السنوات الثلاث الأخيرة أن مشكلة ارتفاع الأسعار قد استفزت العديد من الجهات الوطنية في القطاعين الحكومي والخاص، وحركت هذه الجهات لدراستها والاجتهاد في تقديم حلول عملية لها، ومن بين هذه الجهات مجلس الغرف والغرف السعودية، حيث تم تقديم حزمة من التوصيات العملية في هذا المجال. ورغم هذه الجهود لم تخف وطأة ارتفاع الأسعار، وهو ما يشير إلى أن التعامل مع المشكلة لا يتم بسرعة وفاعلية كافية، وأن هذه المشكلة تحتاج إلى حزمة متكاملة من الإجراءات والسياسات، وأن يتم تطبيقها بشكل متواز حتى تؤتي تأثيراتها في الأسواق.
وفي تقديري الشخصي المحايد أن ارتفاع الأسعار في الأسواق السعودية في مجمله يرجع إلى مجموعتين من الأسباب داخلية وخارجية. فعلى المستوى الخارجي، فإن الأسباب تتمثل من وجهة نظري في: نقص الإنتاج والمعروض العالمي من أهم السلع الغذائية كالحبوب والسكر واللحوم بسبب التقلبات المناخية وتزايد ظاهرة الجفاف والتصحر، وزيادة الطلب على الغذاء من شعوب الصين والهند نتيجة ارتفاع الدخول وتزايد مستويات الرفاهية، وزيادة الطلب على الغذاء لرفع المخزونات الاستراتيجية في الدول التي شهدت اضطرابات في الفترة الأخيرة مثل دول شمال إفريقيا واليمن وسورية وغيرها، وتزايد استخدام الدول الصناعية للمحاصيل الزراعية لإنتاج الوقود الحيوي، وانخفاض المخزون العالمي من السلع الغذائية كالقمح والأرز لأدنى مستوى منذ 30 عاماً، ولجوء بعض الدول لحظر تصدير بعض المنتجات الغذائية أو فرض رسوم تصدير عليها مثل الأرز (مصر وبعض الدول الآسيوية)، القمح (روسيا)، الدقيق (الصين)، وتراجع الدعم الحكومي للقطاع الزراعي في ظل تطبيق قواعد منظمة التجارة العالمية، وارتفاع أسعار النفط، ما أسهم في ارتفاع تكاليف إنتاج المحاصيل وتكاليف النقل، وتزايد المضاربة على أسعار السلع في ظل الأزمات التي ضربت أسواق الأسهم العالمية، والتقلبات المستمرة في أسعار صرف العملات ودخول بعض الدول في حروب للعملات.
أما الأسباب المحلية لارتفاع الأسعار، فإن من أهمها: عدم تفعيل نظام المنافسة وعدم قيام جهاز حماية المنافسة بدوره على النحو الأمثل، وهو ما أدى إلى ضعف وربما انعدام الرقابة على الممارسات الاحتكارية في الأسواق، وضعف المنافسة في بعض القطاعات ووجود احتكار قلة في بعض المجالات، ووجود وكالات حصرية في بعض المجالات الأخرى، وضعف الرقابة على الأسواق، والخلل الهيكلي في أسواق تجارة التجزئة، وكثرة الوسطاء وسيطرة الموزعين على الأسواق، وارتفاع تكاليف النقل التجاري والإيجارات، ما يزيد من التكاليف المحملة على السلع عند بيعها، وتراجع القوة الشرائية للريال في ظل ربطه بالدولار الضعيف، وزيادة أعداد العمالة الوافدة، حيث أسهم ذلك في زيادة الطلب على السلع والمساكن ورفع الأسعار والإيجارات.
كما أن ذهاب البعض إلى أن الأسعار المحلية هي انعكاس للأسعار العالمية، وأن الأسعار في الأسواق السعودية ترتفع مع ارتفاع هذه الأسعار العالمية قول ليس على إطلاقه، حيث إن هناك العديد من الدلائل التي تؤكد وجود ارتفاع غير مبرر في الأسعار في أسواق المملكة وأهمها: عدم انخفاض الأسعار المحلية لمعظم السلع في حالة تراجع أسعارها في الأسواق العالمية، واتباع بعض الصناعات أساليب غير مباشرة لرفع الأسعار لسلع محلية مثل تخفيض أوزان وأحجام العبوات، وعدم انخفاض أسعار السلع التي تتلقى دعماً حكومياً أو التي يتم تخفيض رسومها الجمركية، وحدوث ارتفاع في الأسعار عقب رفع الرواتب وعقب المنحة التي قدمتها الدولة للموظفين، واستغلال بعض التجار للمواسم التي يرتفع فيها الطلب والاستهلاك لرفع الأسعار، مثل شهر رمضان، والأعياد، ودخول المدارس.
وفي ضوء ذلك، فإن أي آليات أو سياسات لمعالجة هذه المشكلة يجب أن تأخذ في الاعتبار الأبعاد الداخلية والخارجية، ولذا فإنني أرى أن الأمر يتطلب اتخاذ حزمة متكاملة من الآليات والسياسات للتخفيف من مشكلة ارتفاع الأسعار وتقليص المسببات الداخلية لها تتمثل في: تفعيل تطبيق نظام المنافسة وإعادة هيكلة مجلس حماية المنافسة، وذلك ليقوم بدوره في حماية الأسواق الوطنية من الممارسات الاحتكارية التي تؤدي لرفع الأسعار، ومعاقبة من يرفع الأسعار دون مبرر، واتخاذ حزمة من الإجراءات لتصحيح مسار منظومة الدعم، الذي تقدمه الحكومة لضمان وصول هذا الدعم لمستحقيه ومنع تسربه إلى الفئات الأخرى، والتوسع في عمليات الخزن الاستراتيجي للمواد الغذائية، وزيادة عدد الشركات المتخصصة في هذا المجال، وتشديد الرقابة على أسعار السلع التي تقدم الدولة لها دعماً، حتى ينعكس هذا الدعم على خفض أسعار هذه السلع، ودراسة إمكانية إدخال تجربة الجمعيات التعاونية الاستهلاكية في المملكة، مع اقتراح أن تقتصر الاستفادة من هذه الجمعيات ويعمل بها السعوديون فقط، ومواصلة خفض الرسوم الجمركية على الواردات الغذائية وعلى مستلزمات الإنتاج الزراعي، وبذل مزيد من الجهود لتطوير وتنمية القطاع الزراعي في المملكة، وزيادة المخصصات للقطاع الزراعي في الموازنة العامة للدولة خلال السنوات القادمة، ودراسة إنشاء بورصات للمحاصيل الزراعية في مناطق المملكة، يتم من خلالها التسويق والتحكم في الأسعار بما يحد من الارتفاع غير المبرر للأسعار، وإعادة النظر في قرار وقف زراعة القمح، وذلك في ظل المستجدات الدولية والإقليمية الراهنة، وفي ظل ارتفاع الأسعار العالمية، وفى ظل استمرار استنزاف المياه بعد تحول المزارعين لزراعة العلف الأخضر، وتفعيل دور جمعيات حماية المستهلك للدفاع عن حقوق المستهلك المنصوص عليها في المواثيق الدولية والوطنية.
إن التعامل مع مشكلة ارتفاع الأسعار بحس اقتصادي واجتماعي وطني موضوعي ومنهجي وعلمي يجب ألا يقلل ويهون من خطورة هذه المشكلة، أو يهول منها ويعتبرها ذات خطورة خاصة في المملكة، مقارنة بغيرها من الدول، كما أن الموضوعية هنا تجعلنا لا ننحاز للقطاع الخاص ونلقي بالعبء كله على الأسباب الخارجية لهذه المشكلة، وكذلك لا نُحَمل القطاع الخاص بمفرده التسبب في هذه المشكلة.
وفي النهاية أود الإشارة إلى أن الأسباب المشار إليها أعلاه أسباب مقدور على معالجتها، خاصة على المستوى المحلي، وفي اعتقادي أنه يمكن الحد من ارتفاع الأسعار إذا ما تم اتخاذ حزمة من الإجراءات العملية والواقعية المشار إلى بعضها أعلاه.
والله ولي التوفيق،،،