مدارس اللغات والأمة العربية

كنت أقف في صف (الكاشيير) وأمامي موظفة تستعد لتمرير ما التقطته يداي من أرفف السوبر ماركت ، وإذا بطفلة لا يتجاوز عمرها السبع سنوات تلتصق بعباءتي وتلتقط علبة شوكولاتة مخاطبة أمها : (أي ونت تو هاف ذيس ، بليز مامي بليز) لألتفت بفضول لمعرفة ما ستقوله أمها من خلف البرقع ، (نو مامي ، نو كاندي توداي) ، لأصدم صدمة حضارية لا حدود لها ، وتخرج عني ابتسامة تعجّب.

ياجماعة المرأة عربية أباً عن جدّ ، وأنا على أرض عربية مسلمة وبين أناس عرب، والمفترض أن لغتنا هي مجال الفخر والإعتزاز. السيدة الفاضلة (المبرقعة) كانت تتباهى بأن ابنتها تتحدث اللغة الإنجليزية ولا تتواصل بالعربية ، بل وتخجل من أن تخاطبها في السوبر ماركت باللغة التي يتحدثها أجدادها من العرب !!.

هناك ممارسات قد توضح أسباب انتشار هذه الظاهرة ونتائجها ، فالسماح بالتوسع المضطرد في إنشاء المدارس والجامعات الأجنبية بالرغم من كون معظمها لا يقوم باعتماد اللغة العربية كلغة للتعليم، سيقود إلى ما يسميه الكاتب مشاري النعيم "فقد القيمة "الفكرية" و"الثقافية" للتعليم وتحويله إلى تعليم "نفعي" بحت ، وهذا في حد ذاته يعارض الهدف الأساسي من التعليم. فنرى مثلاً أن أغلب لغة الحديث في المغرب العربى بالفرنسية وفى الخليج بالإنجليزية ، وانتقلت للأسف هذه الموضة إلى المؤتمرات واجتماعات بعض كبار مسئولينا تباهياً بعلم وثقافة لا تمت لنا.

فلدينا على سبيل المثال ما يتعدى 85 مدرسة أجنبية مرخصة في جدة وحدها من أمريكية وكندية وبريطانية وفرنسية وهندية وفلبينية ، وليس لدينا ما يضمن أنها تدرس بشكل حقيقي قواعد اللغة العربية وعلومها. فلسنا نريد للتعليم أن يتحول إلى مرابحة تنتج مخرجات هزيلة على حساب الجودة والتنافسية.

وهناك هجمة غير محسوبة العواقب في دول الخليج والدول العربية نحو الإفراط في السماح لهذه النوعية من التعليم (الأجنبي - الدولي) بالانتشار المتزايد ، مما يفوت الفرصة على المدارس الجادّة التي تريد أن تقدم تعليمًا متميزاً. هناك إهمال ملموس من المستثمرين والمستثمرات في هذا القطاع لدعم اللغة العربية ودعوة للانسلاخ منها ومن الهوية الثقافية للجيل القادم، وبعدها سيضيع الانتماء الوطني وسنتباكى على أجيال ضيعناها بأيدينا.

وفي المقابل قررت وزارة التربية والتعليم في إسرائيل تعليم اللغة العربية في جميع المدارس ابتداء من الصف الخامس الإبتدائي واعتباراً من العام الدراسي 2010 ، لأتساءل مع الكاتب فاروق جويدة عن أسباب قرار إسرائيل تدريس أطفالها اللغة العربية بينما يفرّ منها أبناؤنا فرار المتولي من الزحف !. ما هي أهداف القرار الإسرائيلي ؟ هل هو الحب والتعاطف مع الشعوب العربية ؟ أم هي الأدوار والمصالح وصراع القوة في مستقبل المنطقة ؟.

هناك شخصيات ورموز قيادية في العالم العربي يفترض لها حمل شعلة التنوير والإصلاح التعليمي مساندة بذلك دور وزارات التربية والتعليم ، إلا أنها تصرّ على الاستثمار في التعليم الأجنبي والمناهج الدولية بفتح مدارس تربي تلاميذها على النذر اليسير من اللغة العربية وتنمي روح الولاء والتبعية للدول التي تدرّس المناهج بلغتها لطلاب وطالبات البلد من المواطنين. وأرى شخصياً أن الأمر يحتاج إلى وقفة ثابتة تقنن عملية التوسع في منح التراخيص تعتمد على خرائط ميدانية توزع هذه المدارس وفق الاحتياج الفعلي ووفق دراسات الجدوى وخطط التنمية المستقبلية.

الأمر بحاجة إلى المزيد من الضبط والمراقبة والمحاسبة لكل القائمين على هذه العملية قبل فتح الأبواب على الغارب لكل من يريد المتاجرة في مستقبل أجيالنا. ومازلت أريد من المسؤولين والمسؤولات تفسيراً لما يحدث ولماذا فقدنا الاهتمام باللغة العربية ونساعد غيرنا في سلب هويتنا والتشبث بثقافاتهم ؟ لماذا يصرّ البعض على محادثة أبنائهم وبناتهم بلغة غير لغتهم من باب التفاخر والمباهاة ؟ لماذا تتفاقم مشكلات هذا الجيل الذي مازلت أطمئن أن فيه الخير إلى يوم الدين؟ أنا لست ضد تعلم اللغات الأجنبية ، بل أنادى بتعلم أكثر من لغة لأن الكون أصبح قرية صغيرة ، لكن في نفس الوقت علينا الإعتزاز باللغة والإجادة التامة لقواعدها.

أنني بالتأكيد لا أحمّل المسئولية كاملة للنظام التعليمي ،لأن الدور الأساس يقع على المجتمع والأسرة في المساهمة في تعزيز حب اللغة العربية ، نريد لأولادنا تعلم ثقافة الآخر، نريده أن يؤسس لجسور ثقافية وشراكات تجارية تستطيع الدول من خلالها تحقيق التنمية المستدامة والمنشودة.

ومن جهتي أردد رجاءً أطلقه قبلي حافظ إبراهيم (فــلا تَـكِـلُوني لـلزَّمَانِ فـإنَّني ** أَخَـافُ عَـلَيْكُمْ أنْ تَـحِينَ وَفَـاتـي **أَرَى لـرِجَالِ الـغَرْبِ عِـزَّاً وَمِـنْعَةً ** وَكَــمْ عَــزَّ أَقْـوَامٌ بـعِزِّ لُـغَـاتِ). وهاهم اليهود قد أحيوا لغتهم ويتعلم أبنائهم لزاماً لغة من حولهم ، فهل سيُـطْرِبُنا مِـنْ جَـانِبِ الغَرْبِ نَاعِبٌ ** يُـنَادِي بـوَأدِ اللغة فـي رَبـيعِ حَـيَاتها !!.

فيا متمسكاً بلغة القرآن .. أيها القائمون على التعليم .. كفانا عزلاً وصدأ للغتنا .. كفاناً بعثرةً لجيل قادم .. "فمن يهُن يسهل ُالهوان عليه .. وبعدها .. ما الجرح بميت إيلام" .

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي