كان أمة
عشت معظم حياتي الواعية مبهورا به مشدودا إليه.
أدرك مبكراً أن العطاء هو إكسير السعادة الذي لا ينتهي فكان رمز العطاء الذي لا ينضب. أعطى كل شيء، أعطى عمره، أعطى جهده، أعطى علمه، أعطى ماله ومال أهله، أعطى أسرته، يصدق عليه قول ناجي: "إنني أعطيت ما استبقيت شيئاً".
هو محظوظ حقاً، وفقه الله إلى حلم عظيم أفنى فيه عمره بمثابرة وإخلاص وتفان، من منا يتاح له ذلك؟ ومن منا يتاح له ثم يعطي كما أعطى؟
ما أسعده عبد الرحمن السميط!
هل اكتفى بأن يبهرنا بعطائه غير المحدود وتضحيته الهائلة ومخاطرته الكبيرة؟ لا بل يستمر في إبهارنا بخصائص أخرى تمثلت في حياته كما لم تتمثل في غيره.
عندما نتحدث عن القيادة بالقدوة (Leading by example) فهذا الرجل من أكثر ممن يمكن أن يستشهد بهم في عالمنا، لم يجلس خلف مكتب وثير ومكيف بارد ينظر حول العمل الخيري، لم يقضِ الصيف في المنتجعات السياحية ويدعي أنه يتألم لحال الجياع، لم يبذر في استخدام المياه في بيته ثم أرسل السائق ليتبرع بكم ريال لحفر بئر، لقد كان هناك، أشرف على كل شيء، ارتدى زيهم، أكل طعامهم، عاش بينهم كواحد منهم، وتدخل في كل التفاصيل وأشرف على كل المراحل، والمذهل أنه لم يفعل ذلك لبضعة أشهر في العام، ولكنه فعل ذلك أكثر من نصف عمره المبارك. وهل اكتفى بذلك؟ لا بل أصر أن يكون قدوة لأهل بيته فاستدرج أفراد أسرته معه في إفريقيا ليعيشوا معه على الكفاف سنوات. وقد كان بمقدور هذه الأسرة أن تقضي أيامها في أفخر منتجعات سويسرا أو إسبانيا.
وعندما نتحدث عن التركيز والتخصص فالسميط مثال عبقري على ذلك أيضاً، فالرجل قد تخصص في الإغاثة والدعوة في إفريقيا، ولم يشتت نفسه في أي جهود أخرى فحدد المكان وطبيعة العمل وبذل لهما كل شيء. وكذا حال المبدعين جميعاً، يتخصصون ويركزون في مجال واحد للإبداع في الغالب.
وعندما نتحدث عن الاهتمام بالأولويات نجد هذا الرجل مذهلاً في ذلك كذلك، فقد ركز في إفريقيا على التعليم والصحة وبناء البنى التحتية، ولم ينجرف أبدا إلى معارك قبلية أو عنصرية أو مذهبية، كان صديق الجميع، كان الشخص الذي قدم ليساعد وليس الشخص الذي قدم ليستعلي أو يثير.
وهكذا، يعلمنا التاريخ مرة بعد مرة أن شخصاً واحداً يمكن أن يصنع الفرق كله. وصف القرآن إبراهيم - عليه السلام - بأنه: "كان أمة"، ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس: "كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة". اللهم ستشهد صحارى إفريقيا القاحلة، وقراها النائية، سيشهد أيتام إفريقيا الجياع، سيشهد ملايين الطلاب، ستشهد مئات الآبار والمدارس والمساجد والمستشفيات، وقبل ذلك كله سيشهد قلبه الكبير الذي تعب كثيراً وأعطى جزيلا وضحى طويلاً، ولكن سعد كثيراً وفرح طويلاً، أن عبد الرحمن السميط كان أمة وكان راحلة نحسبه كذلك والله حسيبه.
فهل نتعلم من هذه المدرسة الكبيرة أن نكون كل في مجال تخصصه وما فتح الله عليه متمثلين عطاء هذا الرجل العظيم وتضحيته وإخلاصه فنبذل أعمارنا بسخاء في أهداف عظيمة نبيلة؟
قبل قليل جاءتني رسالة منسوبة للأستاذ عمرو خالد تقول: «من المستحيل أن تضيف أياما لحياتك ولكن من الممكن أن تضيف حياة لأيامك»، لقد كان كل يوم من أيام السميط عمرا كاملاً وصدق في أيامه قول ناجي مرة أخرى:
إن يوماواحداأسعدني جمع الأفراح طرا من شتات
وهو عمر كامل عشت به كل أعمار الورى مجتمعات