سوق العمل

أتابع مع ملايين المواطنين الجهود الكبيرة التي تبذلها الحكومة في التعامل مع ملف البطالة بكل أبعاده الاجتماعية والاقتصادية. تلك الجهود لا تزال في بداية الطريق، ومن ثم يصعب تقويم فعاليتها بشكل موضوعي يخضع للمقارنة والقياس. غير أن الخطوات الأولى التي قطعها في ذلك المسار وزير العمل المهندس عادل فقيه تبدو مشجعة وتدعونا للتفاؤل، إذ إنها نأت بنفسها عن العجلة والانفعال، وابتعدت عن التصادم مع المجتمع، بل جنحت في تحقيق الهدف إلى أسلوب مكافأة من يلتزم بما هو مطلوب منه ما يعد عقابا غير مباشر لنقيضه. وكنت قد كتبت مقالا في ''الاقتصادية'' قبل نحو عام عن ''فترة الصمت'' التي فرضها يومئذ وزير العمل على نفسه أبديت فيه إعجابي بتلك المبادرة التي تنبئ عن نية لتكريس الوقت في بناء عمل مؤسسي، والإفادة من الرصيد المتراكم لدى الوزارة من دراسات وبرامج. ويبدو أن ''فترة الصمت'' تلك شكلت فرصة جيدة للوزير لسماع الآراء التي طرحها البعض من خارج الوزارة في المنابر العامة، اللقاءات الاجتماعية، وغيرها. ومن الواضح من البرامج التي تم إطلاقها في الآونة الأخيرة أنه اختار ألا يدع فكره أسيراً لمواقف سابقة إن كانت له أو لآخرين.
كما أشرت في ذلك المقال إلى بعض المعطيات، أو البديهيات، المرتبطة بسوق العمل التي يعرفها الكثير من الناس، بينما لا يدركها إلا القليل. من بين تلك المعطيات أن توطين الوظائف في القطاع الخاص يترتب عليه بالضرورة تكلفة إضافية على المجتمع أن يتحملها، إذ إن أي برنامج لإحلال السعوديين في سوق العمل يرجى له النجاح، لا بد أن تتوافر له عوامل ثلاثة، وهي : الاستقرار والأمان الوظيفي، الأجور والرواتب المجزية، والتدريب الجيد. ذلك أن غياب أي من هذه العوامل يحدث اضطراباً وخلخلة في البرنامج إلى أن ينتهي به الحال تدريجياً إلى مجرد مضيعة للوقت وإهدار للمال وضياع لمستقبل وآمال الكثير من الشباب، فما بالك إن غابت كل تلك العوامل مجتمعة! وأحسب أننا لسنا في حاجة اليوم إلى سرد أمثلة لبرامج لم يكتب لها النجاح، وهي كثيرة.
إن البرامج التي أطلقتها وزارة العمل لإحلال المواطنين بدلا من الأجانب في سوق العمل ستحقق، بإذن الله، نتائج جيدة. غير أنه من المتوقع أن نجد أنفسنا قريبا أمام قطاعات متشبعة عاجزة عن أن تجود بالمزيد من الوظائف، ولا سيما تلك التي تتلاءم مع احتياجات وتطلعات جيل الشباب. وقد يصبح الموقف أكثر تعقيدا عندما يؤخذ في الحسبان الآلاف من المبتعثين الذين يتلقون تعليمهم في مراحل الدراسات العليا في كبرى الجامعات في الخارج ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز.
ذلك يدعو تلقائيا للبحث عن بدائل أخرى قد تتوافر لها عوامل النجاح الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها مع مواصلة الجهود المبذولة حاليا. في مقدمة تلك البدائل تأتي العقود الكبيرة التي تبرمها الحكومة مع شركات ومؤسسات القطاع الخاص لتشغيل وصيانة مشاريع البنية التحتية والمرافق العامة، إذ إنها تشكل فرصا لتوظيف آلاف من المواطنين برواتب جيدة في مواقع تتطلب تدريبا ودرجات عالية من التأهيل. ولعل من حسن الحظ أن الشركات القائمة على صيانة تلك المشاريع عددها محدود نسبيا ما يسهل على وزارة العمل مهمتها في توفير فرص عمل جديدة.
إلا أنني أحسب أن ذلك البديل لن يغني عن الحل الذي تعارف عليه الناس منذ آلاف السنين لمواجهة مشكلة البطالة، ألا وهو الاستثمار في خلق وظائف كافية لاستيعاب الأعداد الجديدة من الأيدي العاملة التي تلتحق بسوق العمل. ومن بين القطاعات الأكثر جاهزية للمساهمة في إنجاز تلك المهمة الصناعات المتوسطة والصغيرة، والخدمات، لو توافر لها المزيد من الدعم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي