عقود التجارة الدولية والمتغيرات (1 من 2)

يكثر الحديث عن العقود، وذلك لكثرة التعاملات التجارية، وخصخصة المؤسسات الحكومية، وزيادة دور القطاع الخاص في حياة الأفراد والجماعات، بل تعاظمت الشركات وأصبح بعضها ذا نشاط دولي سواء على المستوى التجاري أو السياسي، وعلى أثر ذلك تكثر الدراسات المتخصصة عن العقود والمتغيرات فيها.
والقاعدة العامة أن العقد شريعة المتعاقدين، فعندما تبرم العقود بكيفية قانونية صريحة ومحددة بدقة، فمصيرها إلى الزوال لأنها مؤقتة بطبيعتها، فهي تزول في الأحوال العادية عن طريق تنفيذ ما تضمنته.
غير أن تنفيذ مثل هذه العقود - خاصة إذا كانت عقودا تجارية دولية - يتميز عن العقود الداخلية الأخرى بطول مدة تنفيذها.
هذه المدة التي يرجع تحديدها إلى إرادة الأطراف ورغبتهم في تحقيق نوع من الاستقرار في معاملاتهم التجارية الدولية، وكذلك ضخامة مبالغها المالية ومواردها البشرية وقدراتها الاقتصادية والتجارية الهائلة، فعقود الإنتاج، والتوريد، وعقود نقل التكنولوجيا، وإنشاء المصانع والسكك الحديدية، وعقود إنشاء الطرقات الدولية والاتصالات، وعقود بناء المفاعلات النووية للأغراض السلمية، وعقود استخراج وتكرير البترول، قد تحتاج إلى فترة من الزمن في تنفيذها قد تمتد لسنوات عديدة، ما يجعل تنفيذ مثل هذه العقود في بعض الأحيان عرضة لتقلبات وتغيرات الظروف، فالظروف المحيطة بإبرام عقد يمتد تنفيذه سنوات طويلة لا يمكن أن يبقى على حاله طوال هذه المدة، فإذا طرأ تغير في الظروف المصاحبة لتنفيذ العقد، فإنه لا مجال للشك في أن ذلك سيؤثر في التزامات الطرفين المتعاقدين، بحيث يجعل تنفيذ مثل هذا الالتزام أمرا مرهقا إرهاقا فاحشا للمدين، ما يهدده بخسارة فادحة إن واصل التنفيذ على شكله الحالي، وإما مستحيلا في التنفيذ بسبب أجنبي خارج عن إرادة المتعاقدين، مثل ارتفاع الأسعار في المواد الخام. وعدم التنفيذ في مثل هذه الأحوال يعتبر مما لا شك فيه خرقا لمبدأ استمرار واستقرار المعاملات التجارية، ومبدأ الحفاظ على العقد والحصول على الأهداف المرجوة التي ارتضاها الأطراف من تنفيذ مثل هذه العقود التجارية الدولية.
وهنا تلعب إرادة الأطراف دورا كبيرا في الحد من آثار هذه التقلبات والتغيرات في الظروف، ما ينتج عنها بعث الثقة والاطمئنان لدى المتعاملين في مجال العقود التجارية الدولية. وهذه التغيرات في الظروف التي تؤثر في تنفيذ العقود التجارية الدولية، وعرقلة عملية إتمام تنفيذها، منها ما يكون طبيعيا، كالزلازل والبراكين والفيضانات، ومنها ما يكون فعلا إنسانيا، كالحروب والثورات، ومنها ما يكون إجراء إداريا، كصدور القوانين برفع الأسعار للمواد الأولية أو المواد المصنعة أو المنتجة، وقد يكون إجراء قانونيا أو تشريعيا بمنع الاستيراد أو التصدير أو تداول رؤوس الأموال، وقد تكون نتيجة لتقدم علمي وتكنولوجي، كانتشار الإشعاع الذري أو الغازات السامة أو تلوث البيئة... إلخ.
وبالتالي فإن من شأن مثل هذه الظروف - سواء كانت ظروفا طارئة أو قوة قاهرة - عرقلة الأطراف في تنفيذ التزاماتهم العقدية، ما يهدد اقتصادات الدول التي ينتمي إليها الأطراف، وكذلك عرقلة عجلة النمو والازدهار الاجتماعي والاقتصادي والمالي، ما يستوجب التدخل لإعادة النظر في مثل هذه العقود أو الالتزامات، خاصة إذا أبدى الأطراف رغبتهم في استمرار العلاقة العقدية والعمل على إزالة المانع والحفاظ على العقد.
لذلك فإن تشريعات الدول تسعى جاهدة لوضع معالجات وحلول لتغير هذه الظروف، لكن الملاحظ على هذه القوانين أو التشريعات أنها تتباين في طرق معالجتها لهذه الظروف، فبالنسبة للظروف التي تجعل من تنفيذ التزامات أحد طرفي العقد، وهو المدين، مرهقا بشكل يهدد بخسارة فادحة تتجاوز الحد المألوف؛ نجد أن هذه التشريعات مثل التشريع المصري في مادته 147 تتبنى نظرية الظروف الطارئة بنص قانوني خاص، بحيث تأخذ بمبدأ تعديل العقد من طرف القاضي ورد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول والموازنة بين مصلحة الطرفين طبقا لمبدأ العدالة إذا أصبح التزام أحد الطرفين أكثر إرهاقا.
بينما نجد أن التشريع الفرنسي لا يتضمن نصا قانونيا خاصا بهذه النظرية والقانونين الإنجليزي والأمريكي يحكمان قواعد العرف في مثل هذه العقود.
ولو نظرنا في قواعد الشرع الحكيم لوجدنا المعالجة الفقهية لمثل هذه الحالات، وذلك في فقه وضع الجوائح، وقاس فقهاء الشريعة الإسلامية الأحوال الاستثنائية لمتغيرات العقود المؤثرة في اقتصاديات العقد وقلب التوازنات في المراكز المالية لأطراف العقد وفق قواعد فقهية ذات طابع شمولي، مثل: لا ضرر ولا ضرار، والمصلحة الخاصة تقدم على المصلحة العامة، ومع ذلك هناك إشكالات في بعض العقود يتجاذبه عدة نواح قانونية ووطنية، وذلك أن عقود التجارة الدولية مع ما لها من أهمية اقتصادية لأطراف العقد، إلا أنها تتعدى ذلك للدول التابعة لها، أضف إلى ذلك أن أهمية عقود التجارة الدولية تتعدى في كثير من الحالات مصالح الأطراف إلى اقتصادات الدول المجاورة لها، فعقود استخراج وتكرير البترول وعقود إنشاء الطرقات السيارة والسكك الحديدية والاتصالات الحديثة يأخذها كثير من الدول في اعتبارها عند وضع خططها الاقتصادية، وبالتالي تتأثر اقتصادات هذه الدول كثيرا بتنفيذ أو عدم تنفيذ مثل هذه العقود التجارية الدولية.
وللحديث صلة.. نسأل الله الشكر على منحه وعطاياه بعد المحن والبلايا وتذكروا أن خيرة الله خير من خيرتنا لأنفسنا والله أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي