إنثروبولوجيا الهتاف
ربما لم يحن بعد وقت التحليل السيسولوجي أو الإنثروبولوجي للديناميكية التي دفعت بالجماهير في بعض البلدان العربية إلى الساحات والشوارع، حتى وإن كان الاستبداد والفساد هما المحرّكان لهذا الفوران.
غير أن من اللافت في هذه الأحداث الكيفية التي عبّرت بها الإنثروبولوجيا عن نفسها وشكلت الاختلاف في نوع ولون ودرجة الهتاف في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية، وإن كان يجمعها قواسم مشتركة، هي: "الشعب يريد إسقاط النظام"، و"ارحل"، والإصرار على السلمية نهجاً.
إن التونسيين هم من سك "سلمية" الهتاف وكانت "ارحل" هي الغالبة، ربما لأن الذاكرة الشعبية التونسية ما زالت مسكونة بوهج كاريزما "المجاهد الأكبر بورقيبة" بطل استقلال تونس، وبالتالي أشاحت لا شعورياً أو عاطفياً عمّا كان يحدث من تجاوزات، في عهده، بينما جسّد لها "زين العابدين بن علي" الطغيان فكثّف التونسيون فيه المظالم السابقة واللاحقة، ولعب قصر مدة الاحتجاجات وهروب بن علي دوراً في تعطيل الصاعق.
في مصر رغم الغضب والصخب، كان الهتاف مطرزاً بالظرافة وخفة الظل والنكتة: (ارحل يعني امشي يا اللي ما بتفهمش) أو (مش حنسيب لك الميدان حتى لو طلقت سوزان) مع أشكال التعبير التهكمي الأخرى كالكاريكاتير أو خيمة (بنسيون الحرية) وكلها تحمل دلالاتها من حيث طريقة تعبير المخزون الشعبي عن نفسه حتى في إرهاب الدهس بالجمال والخيل والسيارات أو القنص، فقد تماسك المصريون بطيبة وفكاهة مما لم يفت على ذهن المشاهد.
في اليمن، كان العالم يمسك أنفاسه من أن يعمد هذا الشعب المدجج بالسلاح إلى تحويل بلادهم إلى مذبحة، إنما رغم الاستفزازات الدموية وغرور رجل أصبح خارج التاريخ، فوجئ العالم باليمني الذي لم يكن الخنجر يفارق نطاق وسطه يصرخ (سلمية ..)، وإلى جانبه شقيقته المرأة التي كانت هي الأخرى مفاجأة العالم أيضا، وهتاف (ارحل) مع الغناء الشعبي والأزجال ببساطة الجبليين وبرنين نخوة عتيقة أصيلة.
في ليبيا، كان الانطباع السائد أن شعبها حاد المزاج فظ، غير أن عفوية وبساطة ووداعة، بل ورع الوجوه والكلمات بدّدت هذا الانطباع الظالم، الذي أجزم بأن شخصية القذافي الجامعة لكل الرعونات، هي ما كرس تلك الصورة الشائهة، ومع أن الليبيين هتفوا بـ (ارحل) وإسقاط النظام إلا أن الغالب كان تهليلاً وتكبيراً أو أهزوجة (قولوا لمعمر وعياله ليبيا كلها رجاله) ما يشير إلى السجية الريفية البدوية والروح المسالمة المتدينة المحافظة.
في سورية التي حوّلها طغيان الأسد إلى معسكر اعتقال ومسلخ بشري كان الهتاف مختلفاً تماماً، فسورية بلد التنوع القومي، العرقي المذهبي، بلد الثورات والانقلابات العسكرية وتطاحن الأحزاب والسجون والتصفيات الجسدية وسطوة المخابرات والقبضة البوليسية والمنافي، مقابل كونها بلد الإحساس العريق المتعاظم بالعروبة وبالإسلام، لذلك كان الهتاف الجماعي للحرية والكرامة حتى في (ارحل) وغيرها من الأهازيج، فقد كانت كلها تنويعات عليها: (سورية بده حرية) أو (الموت ولا المذلة) تحد واستبسال، لا مساحة فيه للظرافة أو الدعابة. أشبه بصيحات نخوات حروب العرب الأوائل أو الأفلام التاريخية، ما يعني أن حجم الجرح المعنوي وعمقه في الوجدان السوري لم يكن يرى شفاء له سوى القصاص لكرامة انتهكت ولحرية طوردت.