مشكلة المياه تتفاقم عربيا .. والحرب القادمة لا تحمد عقباها

إذا كانت مشكلة المياه دولية بامتياز، وأولتها الأمم المتحدة جانبا غير قليل من الاهتمام، ولا سيما خلال العقود الأربعة ونيّف الماضية، فإن المشكلة عربيا تزداد خطورة، فإضافة إلى تفاقمها عالميا، فهناك التوزيع غير العادل للمياه، ولا سيما نسبة هطول الأمطار، ففي بعض البلدان العربية، إضافة إلى الأنهار وربما الثلوج، فإن نسبة الأمطار أكثر من غيرها في مناطق أخرى تعاني جفافا، ولا سيما بسبب قلّة الأمطار، يضاف إلى ذلك الزيادة السكانية، حيث إن معدلاتها في بعض البلدان غيرها في بلدان أخرى، ومثل هذا الأمر يتعلق أيضا بالمصادر المائية ونسبة استهلاكها، وكذلك سوء استخداماته، ففي البلدان النامية ومنها الدول العربية تختلف نسبة الاستخدام للأغراض الزراعية عن الأغراض الصناعية والمنتجة، إضافة إلى استخدامات الحياة المنزلية، والأمر يتعلق أيضا بمعدلات درجة الحرارة وارتفاع منسوب مياه البحار وازدياد نسبة الاحتباس الحراري وغيرها!
وتزداد المشكلة عربيا لأن هناك دولا تفتقر أساسا إلى وجود كميات كافية من المياه، ولا سيما بما يتناسب مع حجم الاستهلاك، كما أن منابع معظم الأنهار العربية هي في بلدان غير عربية، مثل النيل ودجلة والفرات، وتسير في دول الجوار، وهذه العوامل تشكل لغما قابلا للانفجار في أية لحظة، خصوصا بارتفاع أهمية المياه وتعاظم الحاجة إليه وزيادة استهلاكه وشحّ مصادره وتأثره بالتغييرات المناخية والبيئية، فضلا عن محاولات استغلاله سياسيا وتوظيفه لخدمة مصالح خاصة.
وإذا كانت مصر والسودان ويضاف إليهما اليوم جنوب السودان مستفيدة من النيل، فإن الدول المحيطة يمكنها تحجيم وتقييد حجم هذه الاستفادة، خصوصا الدول التي فيها منبع ومجرى النيل، وهي تقارب نحو عشر دول، أما منبع دجلة والفرات، حيث تستفيد منهما العراق وسورية، فإنها في مواجهة خاصة مع تركيا، ولا سيما بعد بناء مشروع الغاب الكبير منذ أواسط الثمانينيات، الذي يضم نحو 21 سدا. أما فلسطين والأردن ولبنان وسورية المستفيدة من نهر الأردن ونبع الوزاني ومياه الجولان والمياه الجوفية في الأرض المحتلة، فهي في مواجهة دائمة مع "إسرائيل" منذ تأسيسها وتفاقمت هذه المشكلة في الستينيات، وذلك عندما عملت سورية على تحويل نهر بانياس، فحاولت إسرائيل التصدي لها، الأمر الذي دفع البلدان العربية إلى عقد قمة عربية عام 1964، وهي القمة الأولى بعد قمة أنشاص عام 1946 لمواجهة الموقف واتخاذ خطوات موحّدة. وإذا كانت منطقة المغرب العربي لا تعاني وجود أنهار متشاطئة أو مشكلة تقاسم مياه الأنهار؛ لأن أنهارها تنبع وتصبّ في أراضيها، إلاّ أنها مقبلة هي الأخرى على مشكلة كبيرة بسبب شحّ المياه والتغييرات الطبيعية والاستخدامات غير الرشيدة وغير ذلك.
ويعاني الخليج عدم وجود أنهار، بل يعتمد بالدرجة الأساسية على تحلية مياه البحار بنسبة 62 في المائة، على الرغم من أسعارها الباهظة، الأمر سيؤدي إلى مشكلات جديدة، ولا سيما بارتفاع مستوى المعيشة وارتفاع أسعار التكلفة. يمكن القول إن المشكلة كبيرة ومعقدة، ولا تتعلق بالجانب العربي فحسب، لكنها تتعلق أيضا بالدول التي تمرّ فيها الأنهار التي يستفيد منها الوطن العربي؛ وذلك لأن 62 في المائة من المياه العربية هي من خارج الوطن العربي، وإنْ كانت هذه النسبة كبيرة إلاّ أنها لا تغطّي الأراضي العربية الشاسعة، حيث تعاني صحراء ممتدة وهائلة تزيد على 80 في المائة.
ويوجد في الوطن العربي نحو 34 نهرا مستمرا ومستديما، وجفّ نهر بردى الذي ظلّ منذ خمسة آلاف سنة متدفقا ودون توقف، وعلى الرغم من تدفق الأنهار لكن قدرتها التخزينية ليست كبيرة بسبب عدم ارتفاع نسبة المياه، ناهيكم عن التغييرات الحاصلة في الطبيعة! وقد تنتظر أنهار ذات تاريخ عريق، تغزّل بها الشعراء على مرّ العصور، جفاف، وحسب بعض التقديرات فإن هذا ما ينتظر نهر دجلة في العراق في عام 2040، إن لم يتم تدارك الأمر بسياسة بعيدة المدى تأخذ مصالح جميع الأطراف في الحسبان مع مراعاة الجوانب الإنسانية وقواعد القانون الدولي.
ولعل هذه المشكلة ستزداد ارتفاعا، خصوصا بازدياد الطلب وارتفاع الاستهلاك وتقدّم مستوى المعيشة والحاجة الأساسية إلى المياه للاستخدامات الصحية والبيئية والتنموية، الأمر الذي سيؤثر على نحو كبير في الأمن المائي والأمن الغذائي بحكم الاشتباك على المستوى الإقليمي بدول الجوار المحيطة، وقد تؤثر المسألة في قضية السلام في المنطقة، بل على المستوى العالمي، لعلاقتها بدول المحيط، خصوصا "إسرائيل" وتركيا وإيران وإثيوبيا، وما يمكن أن تتركه من تأثيرات سلبية على النظام الإقليمي، ناهيكم عن انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والقانونية، إضافة إلى المسلحة والعسكرية.
ولعل هذه الإشكالات الفنية ستنعكس سياسيا وقانونيا واجتماعيا واقتصاديا، لتشكل تحديات كبرى، خصوصا إذا ما عرفنا أن الماء سلعة استهلاكية، فضلا عن التغييرات المناخية والبيئية والاحتباس الحراري وانعكاسات ذلك على الثروة المائية في المنطقة، ولا سيما على الجانب العربي، الأمر الذي يحتاج إلى جهد منفرد على مستوى كل بلد عربي وجهد جماعي عربي مشترك يمكن أن تلعب فيه جامعة الدول العربية دورا إيجابيا إذا ما استندت إلى خريطة طريق طويلة الأمد وعبر جهد معرفي وسياسي استراتيجي.
ويحتاج الأمر كذلك إلى جهد جماعي للتعاون بين البلدان العربية والمحيطة للتوافق على العيش المشترك وتبادل المنافع والمصالح، وهذا يتطلب توظيف الخطط والبرامج الحكومية وغير الحكومية، وبالتعاون مع هيئات دولية ومؤسسات للمجتمع المدني لتطوير الثروات المائية والاستفادة من التكنولوجيا المتطورة والمحافظة عليها في مواجهة التصحّر والتلوّث وشحّ المياه، خصوصا من خلال عمليات ترشيد ومعالجة للمياه والعمل على تحلية مياه البحر وبناء السدود والخزانات بواسطة تقنيات حديثة، وبما ينسجم مع القواعد الناظمة للعلاقات الدولية، خاصة فيما يتعلق بالمياه والاستفادة من الأنهار المشتركة للبلدان المتشاطئة أو التي تستفيد من مرورها وجريانها فيها.
لقد سعت "إسرائيل" إلى تطويق الوطن العربي منذ وقت مبكر، ولهذا عملت على توثيق علاقاتها مع دول المحيط، ففي الستينيات نشطت لبناء اتفاقية بين دول المحيط الثلاثة: إيران الشاه، تركيا، وإثيوبيا حيث تم التوقيع في عام 1958 على اتفاقية ضمّت تركيا وإثيوبيا و"إسرائيل"، التي عُرفت باسم اتفاقية ترايدنت أو الرمح الثلاثي ضد مصر وسورية والعراق، مشجعة على مخاوف إثيوبيا هيلاسيلاسي من سياسة عبد الناصر الإفريقية التحررية، إضافة إلى محاولة دق أسافين بين العرب والأتراك، بعد الانفكاك من الدولة العثمانية، التي حكمت البلاد العربية أكثر من أربعة قرون من الزمان، فضلا عن ذلك استحضار أطماع بلاد فارس "العربية" ومحاولاتها للهيمنة على الخليج والعراق.
لقد بنت "إسرائيل" ثلاثة سدود كبرى في إثيوبيا في السبعينيات للتحكّم في مياه نهر النيل والضغط على مصر والسودان، عبر شركة تاحال الإسرائيلية واستأجرت جزيرة دهلك في وسط البحر لاستخدامها قاعدة عسكرية، كما أن تركيا ظلّت تتحكم في مياه حوضي دجلة والفرات مؤثرة في سورية والعراق، في حين أن إيران التي استفادت من اتفاقية 6 آذار (مارس) عام 1975 المعروفة باسم "اتفاقية الجزائر" بين شاه إيران وصدام حسين بموجب خط الثالويك، ولا تزال متمسكة بها وقامت بتحويل نهر قارون والكرخة إلى الداخل الإيراني وعدد غير قليل من الفروع التابعة لشط العرب! وخط الثالويك خط وهمي من أعمق نقطة في وسط مجرى النهر عند انخفاض منسوب المياه حتى البحر، الأمر الذي سيعني بحكم الطوبوغرافيا وتراكم الطمي والغرين أن شط العرب بعد نحو 100 عام سيصبح في الأراضي الإيرانية.
كل ذلك يجعل المواطن العربي في حالة قلق دائم إزاء المياه ومستقبلها في المنطقة، خصوصا أن البلدان العربية لا تزال من دون استراتيجيات للتعامل مع هذه القضية الحيوية، التي تتعلق بمستقبل التنمية والرفاه الاقتصادي والاجتماعي وبسلام المنطقة وأمنها، في حين أن الدول المحيطة التي تنبع منها أو تمرّ فيها الأنهار الكبرى في العالم العربي، ومن خلال رصد ومراقبة ومعلومات ومعطيات تعرف ماذا تريد وتتصرف في الأمر على نحو اقتصادي وسياسي، وبخطط بعيدة المدى، في حين أن الوطن العربي لا يزال يفتقر إلى الحد الأدنى من هذه الخطط والبرامج التي تسهم في تعزيز متطلبات التنمية والحكم الرشيد والحريات والمعارف.
ومن دون إعادة النظر منهجيا بجميع هذه القضايا فإن مشكلة المياه ستتفاقم في الوطن العربي منذرة بحروب لا تحمد عقباها، خصوصا في ظل ما تقوم به دول المحيط من برامج ومشاريع تلحق ضررا بالعرب ومستقبلهم! ولعل هذه المسألة كانت موضوع مناقشة جادة في مؤتمر انعقد أخيرا في باريس نظّمه مركز الدراسات العربي - الأوروبي بالتعاون مع المعهد الأورو- متوسطي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي