ابق (جائعا) ابق (صبيانيا)
"هم ثلاثة، تعرفت عليهم منذ سنتين وأصبحوا أعز أصدقائي، I-phone وI-pod وI-pad قضيت معهم أجمل الأوقات، كانوا رفاقي في حلي وسفري، في عملي ومنزلي، بل حتى في الحمام. لقد علموني ورفهوا عني، لقد غمروني بفيض من الأفكار والمشاعر والصور والأصوات، لقد قربوا لي البعيد وربطوني بالعالم. وقفوا معي وقت الضيق وأنسوني همومي في لحظات الحزن. لقد غيروا حياتي تماما وحققوا شيئا من أحلامي، فما بالهم هذا الصباح أيتام!".
بهذه الرسالة المستفزة من أحد الأصدقاء المشاغبين أصبحت يوم الخميس الماضي على خبر وفاة عبقري الاتصالات والتقنية ستيف جوبز. وتأملت كثيرا.
ثم فتحت (تويتر) فوجدت الدنيا قامت ولم تقعد، قلت والله إنها فرصة رائعة لكي نستفيد جميعا من عبقرية هذا الرجل ونتعلم من قصة حياته فقد كانت استثنائية بكل مقياس. أبوان يتخلصان منه، مشاكل عائلية، تعثر دراسي، فشل وظيفي، عبقرية مستمرة، مواقف إنسانية متتالية، تحديات مؤلمة، مرض خبيث في سن صغير، ومع ذلك كله شلال من الإبداع والتميز غير العالم بحق مع تواضع وهدوء. قصة إبداع تكتب فيها مجلدات. ووجدت في تويتر وفيسبوك شيئا من الاستفادة من هذه التجربة الفريدة، ولكني وجدت أيضا آلاف التغريدات والمشاركات التعليقات تتناحر في حوار جدلي لا معنى له حول جواز الترحم عليه من عدمه وهل هو مشرك أم كافر أم من أهل الكتاب أم ماذا. ثم وجدت احتفاء كبيرا ومبالغا فيه بأصوله العربية وتأكيدا بأن هذا هو سبب تفوقه وإبداعه كأن جيناته التي لا يعرف عنها أحد هي سبب تفوقه متناسين أن الملايين المملينة تحمل نفس تلك الجينات ولم تصنع شيئا.
ثم قررت الخروج من هذه المشاعر السلبية وهربت إلى كلمة الخريجين التي ألقاها الرجل في جامعة ستانفورد في عام 2005 والتي خاطب فيها الخريجين بخبرته في الحياة، وجلست أتضوع بالحكمة التي تفيض بها تلك الكلمة، وقد قال كلاما نفيسا جدا في ضرورة أن يبحث الإنسان عن عمل يجد فيه نفسه ويحبه إلى درجة كبيرة يفني فيه عمره فإن لم يجده فعليه أن يبحث وألا يرضى بأي عمل، ولكن من أغرب ما استفزني في كلمته قوله:
"ابق جائعا ابق صبيانيا".. stay hungry Stay foolish, ويقصد طبعا في عالم التفكير والإبداع والتعلم, ينصحك أن تبقى جائعا أبدا إلى الجديد، إلى المجهول، لا ترضى بما وصلت إليه، اجعل ألم الجوع إلى الجديد والتغيير إلى الأفضل دائما يعصرك من الداخل للإبداع. كما ينصحك أن تبقى "صبيانيا" تتيح لجميع الأفكار فرصة لأن تتسلل إلى عقلك، لا توصد الباب أمام أي منها، كالطفل الصغير الطائش الذي لا يلتزم بالقواعد التي فرضها الآخرون عليه، لا يقيم وزنا للوضع السائد، يجرب الجديد، يستكشف، يحاول، يخاطر، يتحدى الموجود، لا يستسلم للواقع.
يبدو لي أن هاتين العبارتين المستفزتين: "ابق جائعا ابق طائشا" هي رسالة جوبز إلى العقول المتكلسة التي لم ترض بالواقع فقط، بل تفننت في ترسيخه وتماوتت في الدفاع عنه، إلى النفسيات التي لم تزل تعيش في القرن الماضي وتتغنى بأمجاد ولت وانتهت لأناس كان عندهم هذا الجوع في زمانهم فحققوا ما حققوا. رسالة عميقة جدا إلينا جميعا: ابقوا متفتحين على البدائل الجديدة، خاطروا بأفكار جريئة تتحدى السائد، فكروا بطريقة مختلفة عمن حولكم، لا تشبعوا أبدا من التجديد والبحث عن أفكار جديدة غير مسبوقة. حقا، كما قال القائل: "وحدهم الذين يسافرون إلى الأماكن الجديدة سيعرفون أقصى مكان يمكن أن يصلوا إليه".
وأنا سارح في بحر من هذه الأفكار وجدت التغريدة العبقرية التالية: "ثلاث تفاحات غيرت مسار البشرية: تفاحة آدم، وتفاحة نيوتن، وتفاحة جوبز" فأخذتني في تيار جديد من التأمل التاريخي لمنعطفات مهمة جدا في تاريخ البشرية وما أيقظني من هذه التأملات إلا تغريدة أضحكتني من الأعماق وأبكتني من الأعماق، حيث علق أحد المشاغبين بعبارة عبقرية من الكوميديا السوداء: "والله التفاحة التي أحطها على المعسل في القهوة كل ليلة ستغير أكثر" ربما تكون هي التفاحة الرابعة!