الحق في الماء.. حق أصيل للفرد والجماعة
> لم تعد مشكلة المياه في منطقة الشرق الأوسط تجري بصمت، لا سيما خلال العقود الأربعة ونيّف الأخيرة، فقد احتدمت على نحو شديد، وبرزت إلى العلن، حتى طفت على السطح، وتفاقمت على مرّ السنين، ولم تحجبها أية معركة أخرى، وعلى الرغم من أن أزمة الخليج الثانية التي نجمت عن احتلال القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 وحرب تحرير الكويت التي تبعتها في 17 كانون الثاني (يناير) 1991 التي امتدّت إلى تدمير العراق وفرض عقوبات وحصار دولي عليه طغت على الاهتمامات السياسية الأخرى في الشرق الأوسط، إلا أن مشكلة المياه أو ما يطلق عليه "الأمن المائي والغذائي"، ظلّت أحد الهواجس الكبرى المعلّقة، وليست ثمة مبالغة إذا اعتبرت إحدى المعارك المؤجلة، التي قد تنفجر في أية لحظة، ليس لاحتمال بلوغها مرحلة الصدام العسكري المسلح فحسب، بل لأهميتها الاقتصادية وأبعادها السياسية والقانونية الخطيرة وانعكاساتها على الأمن القومي العربي عموماً، والأمن المائي والغذائي خصوصاً.
وتشمل مشكلة المياه الأنهار الرئيسة التالية: دجلة والفرات والنيل وبانياس والليطاني ونهر الأردن، إضافة إلى شط العرب وملحقاته والمياه الجوفية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ويدخل في نطاقها سبع دول عربية هي: العراق، سورية، لبنان، الأردن، فلسطين، مصر، والسودان، وذلك ارتباطاً مع الدول المحيطة، لا سيما تركيا وإثيوبيا وإيران، إضافة إلى إسرائيل.
إن التفكير في كون مشكلة المياه أحد الصراعات الموازية التي يمكن أن تنشب في أية لحظة باعتبارها لغماً غير موقوت يمكن أن ينفجر حتى دون إنذار، هو تقدير سليم، وربما يمتد ليصل إلى جوهر الصراع في المنطقة، ونعني به الصراع العربي - الصهيوني ولبّه القضية الفلسطينية. وتعاظم الأمر منذ أوائل السبعينيات بين تركيا وسورية والعراق، خصوصاً بعد الشروع في تنفيذ مشروع الغاب وبناء 21 سدّاً على حوضي دجلة والفرات، وكذلك بين العراق وإيران بخصوص شط العرب والنزاع الحدودي الذي تطوّر إلى حرب دامت ثماني سنوات بالكمال والتمام (1980- 1988)، وأخيرا إقدام إيران على تحويل مياه نهر قارون وعدد آخر من فروع شط العرب إلى داخل الأراضي الإيرانية، فضلاً عن مستقبل الاتفاقية العراقية - الإيرانية لعام 1975 (المعروفة باسم اتفاقية الجزائر)، إضافة إلى التعاقدات الإسرائيلية - الإثيوبية لبناء سدود على نهر النيل، واستمرار إسرائيل في الهيمنة على الجولان ومحاولتها استغلال مياه نهر الأردن وشفط مياه الأرض المحتلة، وأخيراً وليس آخراً محاولة بعض الدول الإفريقية المستفيدة من منبع ومرور نهر النيل استغلاله دون مراعاة مصالح السودان وجنوبه بعد تأسيس جمهورية جنوب السودان ومصر، بما يلحق ضرراً بالأمن المائي للدول العربية المتضررة، فضلاً عن الأمن المائي على المستوى العربي.
ولعلنا نعني بالأمن المائي القدرة الدائمة المستمرة في الحاضر والمستقبل على توفير الماء غير الملوّث الصالح للاستخدامات الإنسانية اللازمة للحياة، على أن تكون هذه القدرة غير مشروطة أو مهدِّدة لطرف خارجي طبيعي أو صناعي وبكميات وطاقات تخزينية لمدة مناسبة للاستهلاك وبالقدرة على توفير خزانات محمية سياسياً وأمنياً وعسكرياً. ومثل هذا الأمر موضوع بالغ الحيوية والخطورة على قضية السلام في الشرق الأوسط.
إن مناسبة الحديث هذا هو ملتقى متخصص أسهم فيه خبراء دوليون وعرب التأم في باريس بدعوة من مركز الدراسات العربي - الأوروبي ومشاركة الغرفة التجارية العربية الفرنسية والمجلس العربي للمياه وجائزة الأمير سلطان بن عبد العزيز العالمية للمياه. وانعقد تحت عنوان مثير وحيوي وفي إطار سؤال ملح "المياه: منبع للحياة أم مصدر للنزاعات في الشرق الأوسط؟".
جدير بالذكر أن المركز الذي يستعد لإقامة احتفالية كبرى بمناسبة مرور 20 عاماً على تأسيسه سبق له أن انشغل بموضوع المياه منذ نحو عقدين من الزمان، وقد نظّم مؤتمراً موسعاً في المغرب عام 1996 بعنوان "الأمن العربي.. التحديات الراهنة والتطلعات المستقبلية"، كما أصدر كتاباً ضم العديد من الأبحاث والدراسات الأكاديمية في العام ذاته بعنوان "الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية"، وعاد وناقش موضوع المياه في مؤتمر دولي نظمه في القاهرة في عام 2000 بعنوان "الأمن المائي العربي".
ولعل ملتقى باريس الراهن هو استمرار للتوجه ذاته، لا سيما أن المنطقة تشهد ثورات شعبية تتوخى تكريس مناخ جدي من الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، الأمر الذي يعيد طرح مسألة المياه على بساط البحث، وهو ما أشار إليه رئيس المركز الباحث المستشار والقانوني الدكتور صالح بكر الطيار في كلمته الترحيبية عند افتتاح الملتقى، مؤكداً أن الجميع تابع تاريخ الصراع في منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من 60 عاماً، وما له من انعكاسات سياسية واقتصادية وعسكرية، مشيراً إلى أن مسألة المياه تنذر بالتحوّل إلى حروب أكثر دموية.
لم تقتصر مشكلة المياه على المنطقة العربية ومحيطها من الدول التي تشتبك معها في مسألة المياه أو تتشاطأ معها في الأنهار، بل أصبحت المشكلة عالمية، وأخذت تزداد تعقيداً بفعل ندرتها، ومن ثم زيادة نسبة التصحّر والتلوث والتغييرات المناخية والبيئية، فضلاً عن محاولات تسييسها واستغلالها اقتصادياً، ناهيكم عن الاستقواء بها على حساب الآخرين، ولهذا عمدت الأمم المتحدة إلى إيلاء اهتمام كبير بها وحددت يوم 22 آذار (مارس) من كل عام باعتباره اليوم العالمي للمياه منذ عام 1993، خصوصاً وقد أدركت يوماً بعد يوم شحّ المياه على المستوى العالمي، حيث تفيد دراسات معتمدة من جانبها بأن 1.5 مليار نسمة يعانون عدم وجود مياه صالحة للشرب، وأن نحو ثلاثة مليارات نسمة آخرين ليس لديهم نظام صرف صحي، وأن ما يزيد على 35 ألف شخص يموتون يومياً نتيجة النقص الفادح في موضوع المياه أو استخدامهم مياه ملوثة أو غير صالحة للشرب.
كما تشير دراسات الأمم المتحدة إلى أن 5.3 مليار نسمة، أي ما يعادل ثلثي سكان العالم، سيواجهون نقصاً فادحاً في المياه بعد نحو عقد من الزمان، لا سيما في ظل التوزيع غير العادل للمياه، بما فيه كميات الأمطار وارتفاع معدلات النمو السكاني، حيث تقدّر نسبة الزيادة سنوياً نحو 90 مليون نسمة، وازدياد نسبة استهلاك المياه، وفي الوقت نفسه سوء استخداماته، إضافة إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض وارتفاع نسبة الاحتباس الحراري وزيادة نسبة مياه البحار.
باختصار يعتبر الماء السلعة الجارية والنادرة، ولعل هذا ينطوي على مخاطر شديدة على الصحة والأمن والمستقبل، فضلاً عن انعكاساته على التنمية، ناهيكم عن أن نسبة 2.5 في المائة من كميات المياه في العالم هي المياه الصالحة للشرب فقط، وهي نسبة ضئيلة جدا تشحّ باستمرار، كما أنها في تناقص منذ قرن من الزمان، على الرغم من بناء السدود والخزانات والتقدم العلمي والتكنولوجي ووجود اتفاقيات دولية لتنظيم استخداماته من دول المنبع وصولاً إلى دول المصب أو على الصعيد الداخلي.
ولعل الحق في المياه حق من حقوق الإنسان، وهو حق جماعي وحق فردي في الآن ذاته، أي حق كل فرد الحصول على مياه نقية وبكمية مناسبة، كما أن حقه في الصرف الصحي هو الآخر لا يمكن الاستغناء عنه، الأمر الذي يحتاج إلى تنسيق أفضل على مستوى الموارد الخاصة بالطاقة مثل النفط والغاز والكهرباء وغيرها، فضلاً عن الحكامة الرشيدة، وبهذا المعنى فإن الحق في الماء حق للمجتمع أيضاً لإدامة الحياة واستمراريتها على نحو كريم وبشكل يتناسب مع تطوّر حاجات الإنسان ذاته.
وإذا كان قد قيل عشية الحرب العالمية الأولى وخلالها: إن من يملك النفط يستطيع السيطرة على العالم، فقد يبدو صحيحاً القول: إن من يضع يده على منابع المياه ويتحكم في مسارها وأسعارها ونقلها وتوزيعها ورسومها، يستطيع أن يهيمن على العالم، وذلك لأن لا تنمية من دون مياه، ولا حياة صحية من دون الماء.. وجاء في القرآن الكريم: "وجعلنا من الماء كل شيء حي"، فالماء مهد الحياة والحضارة الإنسانية، وهو مكوّن لا غنى عنه لجميع الكائنات الحيّة، وهو في الوقت نفسه منتج الثروات ومطهّر الأجسام وملهم الإنسان، لا سيما في العلوم والفنون والآداب، ودائماً ما تقام الحضارات والمدن على ضفاف الأنهار وبالقرب من سواحل البحار والبحيرات، وتقوم على تنظيمها قوانين وأعراف وتفصل في نزاعاتها محاكم وقضاء، وهكذا يصبح الحق في الحصول على الماء حقا أصيلا للفرد والجماعة، وبكميات مناسبة وصالحة للشرب والاستعمال، وهو حق لا بدّ من الدفاع عنه وحمايته بالوسائل المشروعة والقانونية، مثلما هو واجب على الدولة، وبمشاركة من المجتمع المدني، أن تصونه وتؤمنه بشكل سليم ومستمر ودائم لهذا الجيل وللأجيال الآتية.