آسيا والشرق الأوسط تستحوذان على 80 % من توسعات طاقة التكرير العالمية
أدى تنامي الاستهلاك العالمي للنفط نتيجة لازدياد عدد السكان وارتفاع مستوى المعيشة في الصين والهند وغيرهما من الدول الآسيوية (ارتفع عدد السيارات فى هذه الدول أخيرا بصورة كبيرة، ما أدى إلى زيادة الطلب على مختلف أنواع الوقود) إلى حتمية زيادة قدرة العالم التكريرية لتواكب زيادة الطلب على المشتقات النفطية كافة. وتشير دراسة حديثة أصدرتها مؤسسة جلوبال داتا الأمريكية حول مخططات التكرير إلى أن إجمالي الطاقة الإنتاجية لمصافي البترول العالمية ستزداد بنحو عشرة ملايين برميل يومياً بحلول عام 2016 نتيجة بناء 66 مصفاة جديدة في 37 دولة. وتبلغ حالياً الطاقة الإنتاجية لـ 662 مصفاة بترول حول العالم 90 مليون برميل يومياً موزعة حسب التالي: 25 مليون برميل في أوروبا و25 مليون برميل في آسيا و28 مليون برميل في أمريكا (77 في المائة في أمريكا الشمالية) وسبعة ملايين برميل في الشرق الأوسط وثلاثة ملايين برميل في إفريقيا.
وبحسب الدراسة ستستحوذ دول الشرق الأوسط وشرق آسيا على التوسعات الجديدة المخططة لبناء مصافي جديدة خلال السنوات الخمس المقبلة. وستسهم دول الشرق الأوسط بنحو 46 في المائة من هذه التوسعات في حين ستسهم دول شرق آسيا، التي تتميز باقتصاد سريع النمو مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية، بنحو 35 في المائة وبذلك يكون نصيب هاتين المنطقتين أكثر من 81 في المائة من الإجمالي التوسعة في الطاقة الانتاجية العالمية لتكرير البترول حتى عام 2016. وفي حين تهدف التوسعات في شرق آسيا إلى تلبية المتطلبات المتزايدة على المنتجات البترولية، تهدف التوسعات في الشرق الأوسط إلى التقليل من الاستيراد وإنشاء مراكز متقدمة لتكرير البترول لخدمة الأسواق العالمية، إضافة إلى تأمين متطلبات الاستهلاك المحلي المتزايد.
وتسهم الدول الخمس الأولى، وهي: الصين، المملكة، إيران، العراق، والهند بنحو 43 في المائة من الإجمالي العالمي لهذه التوسعات. وفي هذا الإطار يخطط عدد من الشركات الصينية مثل بتروشاينا والشركة الصينية للبترول والكيماويات لبناء ست مصاف جديدة في أنحاء مختلفة من الصين بطاقة إنتاجية 1.2 مليون برميل يومياً خلال الفترة من 2011 إلى 2016. وفي منطقة الشرق الأوسط تتصدر المملكة الدول المخططة لزيادة طاقتها التكريرية ببناء ثلاث مصاف تحويلية في الجبيل وينبع وجازان بطاقة إنتاجية تصل إلى 1.2 مليون برميل يومياً. وتتميز هذه المصافي بقدرتها على معالجة البترول الخام الثقيل وإنتاج أنواع مختلفة من الوقود النظيف من جازولين وديزل وكيروسين باستخدام عمليات تحويلية متقدمة. ومن ناحيته، يخطط العراق لإنشاء خمس مصاف جديدة بطاقة 0.9 مليون برميل يومياً بتكلفة 30 مليار دولار.
وعلى الرغم من التوسعات المخططة في طاقة التكرير العالمية فإن صناعة التكرير بصورة عامة باتت محصورة بين مطرقة الارتفاع المتواصل في أسعار البترول الخام وسندان التشريعات البيئية الصارمة، وبالتالي فإن صناعة التكرير تعاني تدني الربحية والارتفاع الباهظ في تكاليف الإنشاء. ونتيجة لهذه العوامل لم يتم بناء أية مصفاة جديدة في كل من أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان منذ أكثر من 30 عاماً، حيث تشهد هذه الدول انخفاضاً في الطلب على الجازولين نتيجة الاعتماد على الطاقة المتجددة مثل وقود الإيثانول الحيوي الذي يلاقي رواجاً في الولايات المتحدة التي يصل استهلاك الجازولين فيها إلى أكثر من تسعة ملايين برميل يومياً. والجدير بالذكر أن الطاقة التكريرية انخفضت بنحو 1.6 مليون برميل يوميا فى كل من اليابان وأوروبا وأمريكا الشمالية. وعلى الرغم من هذا الانخفاض تبقى المصافى مصدرا رئيسا للطاقة فى هذه الدول، فمثلاً تنتج المصافي حالياً نحو 40 في المائة من طاقة الولايات المتحدة وتستهلك نحو 7 في المائة فقط من إجمالي استهلاكها للطاقة.
وفي الأسبوع الماضي أعلنت شركة سونوكو الأمريكية انسحابها من صناعة تكرير البترول بعد قرن كامل في هذا المجال وعرضت مصافيها الأربع في شمال أمريكا للبيع حتى أنها قررت إغلاق هذه المصافي في الصيف المقبل إذا لم تتمكن من بيعها. وعزت الشركة قرار انسحابها إلى ارتفاع أسعار البترول الخام والاقتصاد الأمريكي الضعيف وتدني الطلب على الجازولين ورغبتها في التركيز على أعمال تسويق وتوزيع الوقود. ولا يعد انسحاب شركة سونوكو بالأمر الجديد على الساحة الأمريكية، خاصة بالنسبة لشركات التكرير المستقلة التي لم يعد بمقدورها المنافسة مع كبرى الشركات البترولية المتكاملة عمودياً مثل ''إكسون موبيل'' و''شيفرون'' و''شل''، التي تمتلك أعمال التنقيب والإنتاج وتستطيع تأمين إمدادات رخيصة نسبياً من البترول الخام. وقبل فترة وجيزة ورغم تكاملهما في صناعة إنتاج وتكرير البترول أعلنت كل من شركة ماراثون للبترول وشركة كونوكو فيليبس وشركة مورفي للبترول خطوات مماثلة للتخلي عن تكرير البترول وفصل فرع أعمال التكرير عن الشركتين.
ونتيجة للظروف الاقتصادية السائدة في العالم وللتضييق المتزايد على عمل مصافي البترول في العديد من الدول الغربية (فهي معرضة لغرامات باهظة مقابل أي تقصير ولو بسيط وغير مقصود فى قوانين السلامة أو التشريعات البيئية) أضحى الدور المهم الذي تقوم به صناعة التكرير ''شراً لا بد منه'' لتأمين المشتقات البترولية الضرورية محلياً وذلك لتدني ربحية شركات التكرير ولأدائها السلبي في السنوات الماضية. وللتغلب على هذه النواحي لجأ عدد من الشركات البترولية إلى إيجاد تكامل بين صناعتي التكرير والبتروكيماويات عن طريق تأمين اللقائم الضرورية مثل الأوليفينات والعطريات لإنتاج كيماويات ذات قيمة مضافة.
سيبقى النفط مصدر الطاقة الرئيس حتى عقود قادمة رغم مزاعم البعض والتبشير بالاستغناء عنه لمصلحة مصادر الطاقة البديلة، وبحسب وكالة الطاقة الدولية فإنه في عام 2030 سيشكل النفط ما نسبته 30 في المائة من إجمالي استهلاك دول الاتحاد الأوروبي للطاقة وأن 80 في المائة من وقودها سيكون مصدره النفط فى ذلك العام. لكن هذا لا ينفي انخفاض الاعتماد على مشتقات النفط فى هذه الدول، فمثلا سينخفض استهلاك دول الاتحاد الأوروبي للمشتقات النفطية بنحو 20 في المائة في 2030 مقارنة بـ 2003.
لقد تطورت صناعة التكرير مع الزمن حتى أضحت من الصناعات المعقدة التي تتطلب الكثير من المهارة والدقة والجهد في التصميم والإنشاء والتشغيل. وقد يكلف حدوث خطأ بسيط في التشغيل خسارة ملايين الدولارات عدا الإصابات في الأرواح. ويبقى انخفاض جودة النفط والتأرجح الكبير والغريب والمستمر لأسعار النفط واختلال معادلة الطلب بين الديزل والجازولين، إضافة إلى زيادة شدة التشريعات البيئية المتعلقة بانبعاثات أكاسيد الكبريت والكربون والنيتروجين من أهم التحديات التي تواجه صناعة تكرير النفط. وتجدر الإشارة إلى أن إضافة التكلفة الباهظة لتقليل الانبعاثات البيئية إلى تكلفة التكرير قلصت أرباح شركات التكرير، ما جعل البعض يتخلى عنها ويجعل البعض الآخر يفكر جدياً في التخلي عن هذه الصناعة.
وفي الختام تدل كل المؤشرات على أن مستقبل صناعة تكرير النفط سيكون في الدول النفطية التي تملك الاحتياطيات الاستراتيجية القادرة على تشغيل وإمداد المصافي مدة طويلة. لذلك فإنه من الطبيعي أن تتجه رياح صناعة التكرير إلى دول الخليج العربي لتحتضن هذه الصناعة العالية التكلفة وإقامة مشاريع مشتركة مع الدول المستهلكة. ولن تتجرأ أي شركة على بناء مصفاة كبيرة وحديثة ومتطورة قد تصل تكلفتها إلى 20 مليار دولار في أي بلد ما لم تستطع تأمين إمداد النفط وبأسعار مناسبة ولمدة طويلة لتستعيد استثماراتها في وقت مناسب وبربحية مناسبة. ويبدو أن قدر دول الخليج هو استغلال النفط الموجود في أراضيها الطيبة والتفنن في صناعته وتحويله إلى مشتقات مرتفعة القيمة. ويبدو أن تصدير النفط الخام للغرب قد لا يكون مجدياً في المستقبل نظراً لعدم وجود مصاف كافية في هذه الدول لتكريره، لذلك فإن المستقبل يحمل في طياته الكثير من المفاجآت لهذه الصناعة، ويجب على الدول المصدرة للنفط التأقلم مع هذه المتغيرات وقراءتها جيدا وفي الوقت المناسب.
مدير مركز التمييز البحثي في التكرير والبتروكيماويات ـ جامعة الملك فهد للبترول والمعادن