مصر التي في خاطري!

من أولويات الفترة ما بعد سقوط النظام السلطوي وضع اللمسات الضرورية للتغيير والتحوّل الديمقراطي وتأثيث الأرضية السياسية والاجتماعية للعدالة الانتقالية، الأمر الذي يحتاج في الظروف المصرية الملموسة إلى تحقيق نوع من التوازن بين مبادئ العدالة من جهة والخشية من الوضع الأمني المنفلت من جهة أخرى.

لعل أغلبية أبناء جيلي ومن المنشغلين بالهمّ العام يتذكر أغنية كوكب الشرق أم كلثوم "مصر التي في خاطري وفي دمي أحبّها من كل روحي ودمي"، وقد أعادتني الصديقة الكاتبة اللبنانية دلال البزري إلى أجواء تلك الفترة من عنوان كتابها الجديد "مصر التي في خاطري" الذي تناولت فيه بعض مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية المصرية عشية التغيير، لا سيما تراجع مستوى التعليم بما فيه الجامعي، ونكوص دور المرأة، وانتشار مظاهر استخدام الدين وسيلة للتوظيف السياسي والإيديولوجي والمصلحي، خصوصًا لجهة فرض الحجاب وشيوع بعض الممارسات الغريبة عن جوهر الإسلام، إضافة إلى تدني مستوى الذوق العام والإحساس بالجمال.
والبزري كاتبة وناقدة جادة نحتاج إلى أن نفرد لها قراءة خاصة لهذا الكتاب المثير، لكن أهم ما فيه هي أنها وبأسلوب السهل الممتنع ولغتها الرشيقة أعادتنا إلى حدود غير قليلة بما ارتبط بذاكرتنا بشأن مصر، ولعلها حفّزت فينا شكلًا من أشكال الحنين إلى الوعي الجمعي العربي، ولا سيما لحضور مصر المتميّز آنذاك، خصوصًا بعد تأميم قناة السويس والتصدّي للعدوان الأنجلو- فرنسي "الإسرائيلي" عام 1956، إضافة إلى حملة التضامن العربي الشعبي والتظاهرات التي اندلعت في الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، دفاعًا ودعمًا لمقاومة الشعب المصري.
ومصر التي في الخاطر هي بتاريخها وحضارتها ودورها الريادي على المستويات الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية كافة، دولة أقرب إلى الحداثة، وكانت تتطلّع لأن تلعب دورًا كبيرًا بحكم ثقلها البشري وموقعها الجغرافي، فضلًا عن مشروعها التحرري على صعيد إفريقيا وآسيا وفيما بعد أمريكا اللاتينية، خصوصًا أنها كانت قد تركت بصماتها على تأسيس حركة عدم الانحياز في مؤتمر باندونغ عام 1955، التي تحوّلت إلى تيار عالمي واسع باسم عدم الانحياز أو مجموعة الـ77 كما أطلق عليها في السبعينيات.
استعدت ذلك وأنا أحضر ندوة دولية، بصفتي خبيرًا مستقلًا بالتعاون مع الأمم المتحدة، وقد نظمتها الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية وبالتعاون مع المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية Idea والمركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة وجامعة القاهرة، وكانت بعنوان: "العدالة الانتقالية في التجارب المقارنة.. خارطة طريق لمصر"، كما استذكرت الدور المصري للتضامن مع الحركات التحررية ضد الاستعمار ومن أجل التحرر، ولا سيما بخصوص قرار الأمم المتحدة الصادر عن الجمعية العامة رقم 1514 لعام 1960، الذي اشتهر بإعلان تصفية الكولونيالية، وتأييد حق تقرير المصير باعتبار ذلك قاعدة آمرة وملزمة في القانون الدولي Jus Cogens.
مصر التي عرفتها منذ نحو خمسة عقود من الزمان ظلّت في الخاطر، فمنذ شباط (فبراير) عام 1965 كنت أزورها باستمرار ولعدّة مرات سنويًا، ولا سيما خلال ربع القرن الماضي، وكانت الأمور فيها تنتقل من سيئ إلى أسوأ، ابتداءً من فترة الانفتاح الاقتصادي، حيث زاد الأغنياء غنى والفقراء فقرًا، وبرزت طبقة جديدة من الرأسمالية الجديدة البيروقراطية الطفيلية المتماهية مع الحكم، التي أشاعت فسادًا لا حدود له في البلاد، إلى اتفاقيات كامب ديفيد وما تركته من حالة تراجع ونكوص، بل ضعف على مستوى الأمة العربية ككل، فيما يتعلق بمواجهة المشروع الصهيوني، ولا سيما بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973، فبدلاً من أن تتحول تضحيات الجيش والشعب المصري وانتصاراتهما العسكرية إلى واقع سياسي جديد لصالح الحركة التحررية المصرية والفلسطينية والعربية، اتجهت في الطريق المعاكس الذي قاد إلى المساومة والتخلي عن الصراع مع العدو الذي لا يزال يحتل ويعتدي ويحاصر ويتنكر لكل ما له علاقة بالشرعية الدولية وإن كانت بحدودها الدنيا، فضلاً عن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي.
كان إضعاف مصر يعني إضعاف العالم العربي، الأمر الذي سهّل "لإسرائيل" ومن يشجعها على المستوى الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة، الضغط على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والرئيس ياسر عرفات لقبول التفاوض دون شروط الحد الأدنى، وحصل اتفاق أوسلو عام 1993، لكن الأمور لم تتحلحل منذ ذلك التاريخ حتى الآن، على الرغم من أن المرحلة النهائية للمفاوضات كانت تنتهي عام 1999، ولكن 12 عامًا جديدًا انقضت ولم يتحقق أي شيء جدّي على الأرض، بل تراجعت "إسرائيل" عن تلك الاتفاقية المجحفة وغير المتكافئة أصلاً.
ومارست "إسرائيل" خلال العقدين الماضيين مناورات ومؤامرات وضغوطًا وعدوانًا وحروبًا دون أن يؤثر فيها شيء مما سمّي خريطة طريق ما بعد أوسلو في واي ريفير أو كامب ديفيد، فبنت جدار الفصل العنصري على الرغم من أن محكمة العدل الدولية أفتت بعدم شرعيته وبطلانه عام 2004، وقامت بحرب ضد لبنان عام 2006 وحرب أخرى ضد غزة دامت 22 يومًا في أواخر عام 2008 ومطلع عام 2009، ويستمر حصارها ضد غزة منذ أربع سنوات حتى الآن.
ولعلها أخذت تتجرأ للتدخل في الشأن الفلسطيني، حين أعلنت رفضها لخطة المصالحة بين حماس وفتح، واعتبرتها خطوة لنسف عملية السلام، وكأن السلام بناء قائم، ولكنها بالطبع تقصد مفهومها الخاص للسلام، الذي لا يعني سوى الاستسلام، وهذه المرة تريده استسلامًا من جانب الشعب العربي الفلسطيني وقواه السياسية، سياسيًا وجغرافيًا عبر عملية تشطير وتقسيم.
غياب مصر الحاضرة دائمًا في العقل الجمعي العربي، سبّب حالة التردي على المستوى العربي، ولعلها عودتها اليوم دون استبداد ودون فساد وبتوجّه اجتماعي جديد ودولة قانونية دستورية، قد يعيد شيئًا من العافية إلى الوضع العربي، فمعافاة مصر تعني بداية معافاة الأمة العربية، وإذا كان لا يمكن تصوّر الوطن العربي دون مصر، كذلك لا يمكن تصوّر نهضة للعرب دون استنهاض مصر، وإذا ما نجحت الثورة في مصر فإنها يمكن أن تمتد إلى الوطن العربي والمهم أن تنتصر، أما إذا فشلت أو نكصت عن دورها التاريخي بعد حقبة مزمنة وطويلة من التسلط ونقص في الثقافة الديمقراطية بشكل عام والثقافة الحقوقية بشكل خاص، فإن انعكاسها سلبًا سيكون على العالم العربي وربما على نحو مضاعف.
لعل من أولويات الفترة ما بعد سقوط النظام السلطوي وضع اللمسات الضرورية للتغيير والتحوّل الديمقراطي وتأثيث الأرضية السياسية والاجتماعية للعدالة الانتقالية، الأمر الذي يحتاج في الظروف المصرية الملموسة إلى تحقيق نوع من التوازن بين مبادئ العدالة من جهة والخشية من الوضع الأمني المنفلت من جهة أخرى، كما أن من أهداف نظام العدالة الانتقالية هو إرساء وتعزيز الديمقراطية عبر مبادئ سيادة القانون والدولة القانونية القائمة على أخلاقية العدالة الانتقالية، وكذلك كشف جرائم الماضي والتحقق منها بشفافية وحيادية، لكي يتم التوصل إلى الإصلاح المنشود، وهذا الأخير ليس وصفة جاهزة يمكن اعتمادها في كل بلد أو استنساخها أو تقليدها، بل لا بدّ من مراعاة الخصوصيات.
وإذا ما استهدفنا الوصول إلى العدالة الانتقالية، فلا بدّ من العمل على بناء ذاكرة وطنية وتقصّي الحقائق، وفيما بعد كشفها وتعويض الضحايا لجبر الضرر المادي والمعنوي وتهيئة المستلزمات لإصلاح النظام القانوني كي لا يحدث ما حدث في الماضي. ولعل قضية العدالة تحتاج إلى مدافعين عنها وساعين لتحقيقها، فقد تكون للسياسيين حساباتهم الخاصة وأحيانًا مساوماتهم، لكن مهمة الحقوقيين أبعد من الكسب السياسي أو الحصول على المواقع أو الانتقام أو الثأر، وإذا غاب من يدافع عن قضية حقوق الإنسان، ضاعت العدالة الانتقالية، الأمر الذي يتطلب معرفة الحقيقة، ولا سيما للجرائم وتحديد ماهيتها ووضع ضمانات لعدم تكرارها، ناهيكم عن جبر الضرر وتعويض الضحايا.
وبالطبع؛ فإن الوصول إلى العدالة الانتقالية في وضع معقد ومتداخل وحكم سلطوي طويل الأمد مثل مصر، ليس سهلًا، بحيث يتم كشف جرائم الماضي من جهة والتعويض من جهة ثانية وإصلاح النظام القانوني ضمانة للمستقبل من جهة ثالثة.
وقد أشار خوسيه أنطونيو مارتين بالين أحد الخبراء الدوليين في موضوع العدالة الانتقالية من إسبانيا بالقول: يمكن التعلم من تجربتنا وكذلك تجنب أخطائنا، والأمر يشمل تشيلي والأرجنتين وجنوب إفريقيا والمغرب والعديد من دول أمريكا اللاتينية وكذلك إفريقيا وآسيا، كما يمكن الاستفادة من تجربة دول أوروبا الشرقية، حيث سارت التجربتان البولونية والهنجارية في طريق الاستمرارية القانونية. أما في ألمانيا الديمقراطية وفي تشيكوسلوفاكيا فقد كان التغيير ثوريًا، ولا سيما بعد انهيار جدار برلين والتحوّل الكبير في ميزان القوى بنزول الجماهير إلى الشوارع والساحات، حيث اضطرت الحكومتان إلى التراجع، والاعتراف بالمعارضة التي تسلمت السلطة، خصوصًا بعد إجراء انتخابات حرّة وفي إطار التعددية.
وإذا كان ثمت تحديات تواجه المسيرة الثورية المصرية وتتمثل في صعود التيار الديني ومحاولة فرض اتجاهه على الدولة والدستور والمجتمع، وكذلك بعض المخاوف من حال الانفلات الأمني وإن كانت محدودة، فالسبيل لوضع حد لها يتطلب عقدًا اجتماعيًا جديدًا بين الشباب وتحالفاته، الذي مثّل جمجمة الثورة وسواعدها وحطبها وبين القوى السياسية المعارضة، الإسلامية واليسارية والناصرية، وقوى المجتمع المدني للتوافق على القيم الأساسية المشتركة التي يمكن أن تسير عليها الدولة المدنية المنشودة، ويمكن تحويل بعضها إلى قواعد دستورية ديمقراطية بحيث تأتي منسجمة مع هذه القيم، وفي ذلك ضمانة لعودة مصر لدورها الريادي ولكونها مصدر إشعاع فكري وثقافي وثوري الآن، وهي مصر التي في خاطري، تلك التي بقينا نبحث عنها طيلة عقود من الزمان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي