رمضان .. مدرسة العام

يستقبل المسلمون شهر رمضان كل عام بالترحيب والتفاؤل ويشمرون عن سواعدهم حتى يجتهدوا فيه في العبادة ويعوضوا ما فاتهم في الأشهر السابقة من التفريط في العبادة والانشغال بالدنيا والغرق في بحور مشاغلها تذرعا بالسعي وراء الرزق وتربية الأبناء ورعاية الآباء وغير ذلك من المشاغل، لذلك يأتي رمضان فرصة ذهبية لا تقدر بمال وإذا حرمها الإنسان في هذا الشهر الفضيل لا تعوض، فيه ليلة خير من ألف شهر ولذلك يجب على كل مسلم عاقل أن يستفيد من هذا الشهر الكريم بالحفاظ على الصلاة الفرائض والنوافل، فمن أدى فريضة في رمضان كمن أدى سبعين فريضة في سواه، ومن أدى نافلة في رمضان كمن أدى فريضة في سواه، هذا إلى جانب قراءة القرآن والذكر والدعاء وأداء العمرة وغير ذلك من أبواب الخير.

مما ذكر آنفا نجد أن رمضان شهر مملوء بالخيرات والفضائل التي تعم كل المسلمين وهو شهر مفضل على كل الشهور، كما أن الله فضل يوم الجمعة على سائر الأيام وفضل ليلة القدر على بقية الليالي وفضل الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ على جميع الرسل، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وبينات مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185).

فهذا الشهر مأمور المسلم بصيامه، فالصوم هو الركن الرابع من أركان الإسلام ولا يسقط عن المسلم إلا بعذر من الأعذار التي وضحها الشرع في الكتاب والسنة. وشهر رمضان لا يكون مميزا بالصيام والصلاة فحسب، ولكن بالمعاملات الإنسانية النبيلة التي تتجلى في هذا الشهر العظيم، فالمسلم يطبق ما تعلمه من الإسلام تطبيقا عمليا؛ في تعامله مع الناس على اختلاف أشكالهم وطبقاتهم وكذلك في الشارع وفي أعماله اليومية وفي البيع والشراء وغيره، ويحاول جاهدا أن يتجنب كل ما يفسد صيامه أو ينقص أجره طمعا في حصوله على الثواب كاملا.

والمسلم عليه ألا يسخر من الآخرين أو ينتقص من حقهم أو يتعالى عليهم وأن يبتعد عن ظن السوء أو الغيبة والنميمة وعليه أن يتذكر جيدا أن الله خلق الناس وجعلهم شعوبا وقبائل من أجل التعارف وأكرم الناس عند الله هو التقي كما جاء في سورة الحجرات قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ *) سورة الحجرات " الآيات من 11 إلى 13 .

وعلى كل إنسان ألا ينسى أصله الذي يعود إليه تكوينه وألا يتعالى على الآخرين أو يتباهى بالغنى أو الصحة أو غير ذلك من نعم الله عليه.
يقول الشاعر إيليا أبو ماضي:
نسي الطـين ساعة أنه طين *** حقير فصال تيها و عربد
وكسا الخـزّ جسمه فتباهى *** وحوى المال كيسه فتمرّد
يا أخي لا تمل بوجهك عنّي *** ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
أنت لم تصنع الحرير *** الذي تلبس واللؤلؤ الـذي تتقـلّد
أنت لا تأكل النضار إذا *** جعت ولا تشرب الجمان المنضّد
أنت في البردة الموشّاة مثلي *** في كسائي الرديم تشقى وتسعد
لـك في عالم النهار أماني *** ورؤى والظلام فوقك ممــتد
ولقـلبي كمـا لقلـبك أحلا *** م حسان فإنّه غير جلمــد
مما سبق نرى أن شهر رمضان الكريم مدرسة للعام كله، فهو يؤثر في سلوك المسلم وربما يغيره للأفضل ويجعله يقلع عن كل الأخلاق السيئة والسلوكيات المعوجة التي تشينه وتبعد الناس عنه وتفقده ثقتهم به، وهذا الشهر (رمضان) الذي هو مدرسة العام ـ كما أسلفت ـ يحتم على كل عاقل أن يغتنمه في كل شيء يصلحه ويساعده على السعادة في الدنيا والفوز برضا الله وجنته في الآخرة، وحتى لا يندم إذا فرط في اغتنام هذا الموسم العظيم من مواسم الخير.
صعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ درجات منبره الثلاث وكان في كل درجة يقول آمين فتعجب الصحابة رضوان الله عليهم وسألوه فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "أتاني جبريل فقال يا محمد: رغم أنف عبد أدرك رمضان ولم يغفر له قل: آمين فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف عبد أدرك والديه أحدهما أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة قل: آمين فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين فقلت: آمين". فليتنا نحافظ على الأخلاق الفاضلة ونقتدي برسولنا الكريم في كل شيء ونتواضع مع الناس جميعا، حيث قال رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم: " ثَلاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ الله".
فالمسلم العاقل الذي يتزود من دنياه لأخراه وهو حي يرزق لأنه لن يتمكن من ذلك بعد موته:
يقول القائل:
تزود من التقـوى فإنك لا تـدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجــر
فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من صبي يرتجى طول عمـره *** وقد نسجت أكفـانه وهو لا يدري
وكم من عروس زينوها لزوجها ***وقد قبضت روحها ليلة القدر
ويقول آخر:
لو كانت الدنيا تدوم لأهلها *** لكان رسول الله حيا وباقيا
ولكن تفنى ويفنى نعيمها *** و تبقى الذنوب والمعاصي كما هي

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي