سورية.. السيناريوهات المحتملة في ظل غياب الأفق السياسي

بعد مرور ما يقارب خمسة أشهر على بداية الانتفاضة السورية يبرز السؤال بقوة عن اتجاهات ومآلات تطور الوضع في سورية، وعن ماهية السيناريوهات المحتملة، والمتغيرات التي تؤثر في مستقبل الشعب السوري والدولة السورية، خصوصًا أن كل المؤشرات تشير إلى غياب أي أفق لحلّ سياسي للأزمة الوطنية العامة في الوقت الحالي؛ نظرًا لانسداد الأفق أمام أي حلّ سياسي للأزمة، وإمعان النظام السوري في المراهنة على الحلّ الأمني والعسكري، الذي يزهق أرواحًا كثيرة وعزيزة في مختلف المدن والبلدات والقرى السورية، فيما تتزايد الضغوط الدولية والعربية على النظام لوقف استخدام العنف وسحب الجيش إلى ثكناته، لكن الأهم هو استمرار الحركة الاحتجاجية في الازدياد والتصاعد مع انقضاء الأسبوع الأول من شهر رمضان، مظهرة قدرة كبيرة في الدفاع عن مطالبها، واستعدادًا منقطع النظير للتضحية، والمضي قدمًا في الحراك السلمي الوطني، ومبرهنة على أنها عابرة للإثنيات والمذاهب والطوائف والمناطق.

تزايد الضغوط
مع اشتداد الحملة الأمنية والعسكرية على مختلف المدن والبلدات، خاصة مدينة حماه ومدينة دير الزور ومعرة النعمان وغيرها، خرجت أصوات دولية وعربية عديدة، تطالب بوقف إراقة الدماء والبحث عن حلول سياسية، حيث صدر بيان رئاسي عن مجلس الأمن طالب السلطات السورية بوقف العنف، في إثر التغير في الموقف الروسي، الذي توّجه التحذير الذي وجهه الرئيس الروسي ميدفيدف للرئيس بشار الأسد من المصير الحزين في حال عدم الشروع في إصلاحات جدّية، وتناغم مع التحذير الذي وجهه رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين إلى الأسد، واعتبر فيه أنه يسير في طريق خطر باعتماده على الحلول الأمنية وإراقة دماء شعبه. ومن جهته، طالب بان كي مون الأمين العام الرئيس بشار الأسد، في اتصال هاتفي معه، بوقف العنف فورًا، حيث من المقرر أن يقدم تقريرًا لمجلس الأمن الدولي الذي سينعقد لمناقشة الوضع في سورية. أما فرنسا فقد دعت ـــ من جهتها ـــ إلى مرحلة ''انتقالية ديمقراطية''، محذرة من أن ''زمن تهرب السلطات السورية من العقاب قد وَلَّى''.
وجاء التصعيد في الموقف التركي حيال ما يجري في سورية، منسجمًا مع التصعيد الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة وفرنسا، حيث اعتبر رئيس الوزراء التركي أن صبر تركيا قد نفد حيال ما يحصل في الجار السوري، وأنه سيرسل وزير خارجيته إلى دمشق كي ينقل رسالة قوية، ويبني على نتائجها موقف تركيا النهائي حيال النظام السوري. في المقابل، سارعت بثينة شعبان المستشارة السياسية والإعلامية للرئيس السوري إلى الرد على رجب طيب أردوغان، بقولها ''إذا كان وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو قادمًا إلى سورية لينقل رسالة حازمة، فإنه سيسمع كلامًا أكثر حزمًا''، بمعنى أن النظام لا يكترث بالضغوط والمطالبات الدولية.
ولا شك في أن اهتمام تركيا بما يجري في سورية يختلف عن اهتمامها بما جرى في مصر أو تونس؛ لأن الوضع بالنسبة لسورية مختلف تمامًا، حيث تعتبر تركيا أن ما يجري في سورية مسألة تمسها تمامًا؛ لأن سورية دولة مجاورة، وهناك حدود تمتد على مسافة 850 كليو مترًا.
وفي السياق نفسه، يرى بعض المسؤولين الأتراك أن ما يجري في سورية يرقى إلى مصاف مسألة تركية داخلية، تتطلب تعاملًا مختلفًا. وقد سعت الحكومة التركية منذ بداية الأحداث في سورية إلى اقتراح معادلة، تقول بإنجاز الإصلاح مع المحافظة على الاستقرار، وأن يقود الرئيس السوري بشار الأسد شخصيًا الإصلاح في بلاده، لكن النظام في سورية لم يطبق وعود الإصلاح التي وعد بها، ولم يطبق حتى المراسيم التي أصدرها الرئيس.
ويبدو أن تطور الموقف التركي لا يبتعد عن التنسيق مع موقف الإدارة الأمريكية، إذ أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أن على داود أوغلو أن ينقل رسالة واضحة إلى السلطات السورية، مفادها ''ضرورة سحب جنودها إلى ثكناتهم وإطلاق سراح جميع المعتقلين''.
ولم تكتفِ الدول الغربية بالتصعيد السياسي، بل طاول تصعيدها الجانب المالي، حيث علقت النمسا عقدها القاضي بتسليم أوراق مالية من الليرة السورية طبعها أحد فروع البنك المركزي النمساوي، حيث صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية ''بيتر لانسكي تيفنتال''، بأن بنك ''أو بي إس'' لإصدار الأوراق المالية والضمانات، ''اُتخذ هذا القرار بسبب القمع العنيف الذي يتعرض له المتظاهرون في سورية''، مع العلم أن هذا البنك وقع في عام 2008 عقدًا مع البنك الوطني السوري، يقضي بتسليم 600 مليون ورقة مالية لسورية.

انكسار الصمت العربي
غير أن التطور الجديد حيال ما يجري في سورية هو انكسار حاجر الصمت العربي الذي دام ما يقارب الخمسة أشهر، ودشنه إصدار مجلس التعاون لدول الخليج العربي بيانًا ينتقد الاستخدام المفرط للقوة، تلاه صدور بيان عن الجامعة العربية، دعت فيه السلطات السورية إلى الوقف الفوري لجميع أعمال العنف والحملات الأمنية ضد المدنيين. لكن ثقل التحول في المواقف العربية، المطالبة بوقف حمام الدم، دشنه البيان الذي صدر عن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وإعلانه سحب السفير السعودي من دمشق للتشاور، وشكل ذلك رسالة واضحة تطالب بوقف ''آلة القتل وإراقة الدماء''، وتضع النظام السوري أمام الاختيار ما بين الحكمة أو الفوضى، الأمر الذي يشير إلى تحوّل مهم في الموقف السعودي والخليجي، ومعه الموقف العربي، حيال ما يجري في سورية من قتل وتدمير، حيث سارعت على إثره كل من الكويت والبحرين إلى سحب سفيريهما من دمشق تناغمًا مع الخطوة السعودية.
وتشير التغيرات في الموقف السعودي والخليجي إلى جانب التغير في الموقف الروسي والتصعيد في الموقف التركي، إلى تزايد الضغوط العربية والدولية على النظام السوري، وبما يرسل رسالة قوية على أن السياسة الأمنية في معالجة الأزمة في سورية لم تعد تُحتمل دوليًا وعربيًا، بالنظر إلى الكلفة البشرية العالية.
وقد بقي الموقف السياسي الرسمي لدول الخليج، طوال ما يقارب الأشهر الخمسة، بعيدًا عما تطمح إليه غالبية المواطنين الخليجيين، لذلك فإن التغير الأخير في الموقف الخليجي فاجأ السلطات السورية، واعتبرته وسائل الإعلام الرسمية السورية موقفًا يحابي المواقف الأمريكية.
ويبدو أن أمورًا عديدة دفعت دول الخليج العربي والجامعة العربية إلى تغيير موقفها حيال ما يجري في سورية، ولعل العامل الأهم هو استمرار الانتفاضة السورية في حراكها الاحتجاجي، وتقديمها لتضحيات جسام في الأرواح والجرحى والمعتقلين، والحفاظ على سلميتها وشعاراتها الوطنية الجامعة، وتحول حراكها الاحتجاجي في شهر رمضان إلى فعل يومي، الأمر الذي أثار المزيد من الضغوط داخل دول الخليج، وازدياد التعاطف الشعبي فيها، خاصة في الكويت التي شهدت تحركات شعبية عديدة، ومطالبات من طرف برلمانيين كويتيين بسحب السفير الكويتي من دمشق، وبطرد السفير السوري من الكويت.
وقد اعتمدت معظم دول الخليج العربي منذ بداية الاحتجاجات الشعبية في سورية سياسة أراحت النظام السوري، وجعلته يعتقد أنها تدعمه وتعترف بشرعيته، وتصمت في الوقت نفسه حيال ما يقوم به من أعمال ضد الحركة الاحتجاجية. ثم بدا وكأن دول الخليج تقف على الحياد حيال الأزمة في سورية، وتتخذ موقف المتفرّج، على الرغم من وقوف وسائل إعلامها إلى جانب المحتجين في الشوارع السورية، الأمر الذي دفع لجان تنسيق الانتفاضة السورية إلى إطلاق تسمية ''صمتكم يقتلنا'' على تظاهرات الجمعة الأخيرة قبل رمضان، بوصفها رسالة لكل الصامتين في الداخل والخارج، ولا تخلو من إشارة عتب إلى الصمت العربي الرهيب، المشوب بالتآمر، حيال الحراك الاحتجاجي، حيث لم يجرؤ أي نظام عربي على انتقاد عمليات القتل التي يتعرض لها المحتجون السلميون في التظاهرات والاحتجاجات، التي بدأت منذ خمسة أشهر وذهب ضحيتها أكثر من ألفي شهيد. ثم مع استمرار صمت الصامتين أطلقت تسمية ''الله معنا'' على الجمعة الأولى من شهر رمضان''، وحملت معها دلالات عديدة ورمزية لما يعانيه المحتجون من محنة وويلات.

اتجاهات الأزمة
ليس من المرجح أن تستمع السلطات السورية، أو أن تستجيب للمطالبات بوقف الحل الأمني؛ لأن أصحاب هذا الحل يجدون فيه السبيل الأوحد لحماية النظام وحل الأزمة الوطنية، على الرغم من أن تجارب الشعوب أثبتت أن استخدام العنف المفرط وأعمال القتل لا تنقذ أي نظام كان، بل تزيد من فرص سقوطه، لذلك فإن النظام في سورية سيلجأ إلى الالتفاف على المواقف العربية والدولية، وهو يمتلك في هذا المجال خبرة لا بأس بها، ويستند في ذلك إلى أن المواقف الدولية والعربية تستجيب للمساومات والمقايضات التي تقدم من مختلف الأطراف.
ويبدو وفق هذا السياق أن اتجاهات وسيناريوهات الأوضاع في سورية تحكمها محددات عديدة، أهمها، استمرار الانتفاضة الشعبية وزخمها واتساعها، بوصفها جوهر كل الحسابات والمعادلات الداخلية والخارجية، بما فيها المواقف والمعطيات الدولية، والموقف الشعبي والرسمي في البلدان العربية.
في المقابل، يراهن أصحاب الحل الأمني في سورية على عامل الوقت في قمع الانتفاضة، حيث سمعنا كلامهم عن الحسم العسكري قبل بداية شهر رمضان، بينما الذي حصل هو العكس تمامًا، حيث ازدادت الانتفاضة زخمًا، وتحول كل يوم رمضاني إلى ما يشبه جمعة.
وهذا ما يفسر تزايد الضغط الدولي والعربي على النظام. ومع ذلك هناك من يراهن على الحل الأمني لقمع التظاهرات وإنهاء الاحتجاجات السلمية بشكل نهائي، وذلك على غرار ما حصل في إيران مع ''الثورة الخضراء'' عام 2009، مع العلم أن الوضع في سورية مختلف كثيرًا، حيث تجري عملية توريط الجيش في حصار ودخول المدن والبلدات والقرى السورية، الأمر الذي يفضي إلى حدوث انشقاقات داخل صفوفه، كالتي حصلت خلال اقتحام العديد من المدن والبلدات السورية، ونشرت في أشرطة فيديو وصور على الإنترنيت. وقد تتعمق هذه الانشقاقات، وبما يهدد وحدة الجيش وسير الأمور نحو الاقتتال وإسالة المزيد من الدماء.
وهناك من لا يستبعد التدخل الخارجي المباشر في سورية في حال تزايد أعداد الشهداء من المدنيين، لكنه احتمال يرفضه المحتجون السوريون، وترفضه قوى المعارضة السورية بمختلف أطيافها. كما أن الأحاديث تكثر عن احتمال أن تتجه الأمور نحو الفوضى والاقتتال الأهلي، لكن هذه الأحاديث فيها كثير من التهويل، وتحمل نغمة التحذير من خطورة تغيير الأوضاع القائمة، بوصفها الخيار الأسوأ، المفضي إلى انهيار الدولة وإشاعة الفوضى، وبما يسمح للمتشددين والسلفيين بالسيطرة على السلطة والإجهاز على المجتمع وفرض أجندتهم عليه، وهو أمر بعيد كل البعد عن حقيقة الأمور.
ويبقى أن البحث عن ممكنات الخروج من الأزمة السياسية والوطنية العامة، ما زال يجد طريقًا في توقف الحل الأمني وجميع أشكال العنف والاعتقال التعسفي وقمع المتظاهرين، وسحب وحدات الجيش إلى ثكناتها، وإطلاق سراح جميع المعتقلين، والإقرار بأن الأزمة فريدة من نوعها في تاريخ سورية الحديث، وتتطلب تضافر جهود جميع السوريين وإشراكهم الفعلي والعملي في تحديد حاضر ومستقبل ومصير بلدهم، وفي تحديد ممكنات الانتقال إلى دولة مدنية، ديمقراطية وتعددية، تتسع لجميع أفراد الشعب السوري ومختلف مكوناته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي