صلاحية صيام رمضان في هذا العصر وكل العصر
إذا تجاوزنا التفسير الفقهي للصيام، والنفائس الخالدة فيما ورد بصدده في الكتاب والسنة، وتجاوزنا الصفاء الروحي، والتسامي بالنفس عن متاع الدنيا وغرورها.. وطرحنا صيام رمضان في إطار أكثر تواضعاً ووضعية، إطار الصلاحية موضوعياً في هذا العصر وكل عصر.. نجد، بدايةً، إذا دققنا النظر، أن المسلمين في هذا الشهر العظيم فئات ثلاث: الفئة الأولى: كُتب عليها الصيام وقادرة عليه جسداً، وتطلبه وترجوه بفؤاد خاشع، ونفس شغوفة به، بصدق الإيمان وحُسن الإسلام، هذه الفئة، التي كثيراً ما تزاول الصيام خارج رمضان بحثاً عن سعادة ما فوقها سعادة.. وكذلك، الفئة الثانية، كالفئة الأولى، ولكنها غير قادرة جسدياً لمرض أو عذر شرعي.. يبقى أن هاتين الفئتين بالنسبة لهما التساؤل حول صلاحية صيام رمضان في هذا العصر، وكل عصر، غير مطروح أساساً.
لننتقل إلى الفئة الثالثة، التي تعنينا في موضوع صلاحية صيام رمضان في هذا العصر وكل عصر، وهي فئة كُتب عليها الصيام، وهي قادرة على تحمّله، وتقبله دينياً كفريضة لمجرد أنها مسلمة.. ولكنها تتساءل عن مدى صلاحيته فعلياً، ومدى فائدته الملموسة، مع فلسفة العصر الذي نعيشه، التي تقاس فيه الأمور، أولاً وقبل كل شيء، بما لها من نفع فوري..!
نقول لهذه الفئة: أما يحق للجسد، بعد 11 شهراً من العمل.. أن يتمتع بعطلة؟ مَعِدة تهضم دون توقف، وأمعاء تمتص، ودم تترسب فيه بقايا الوحدات الحرارية الفائضة في شكل معيقات للدورة الدموية، تزكي ارتفاع ضغط الدم، وترهق القلب، وتؤثر في الجهاز التنفسي، وفي الأعصاب والمفاصل، وترهل الجسد، وتثقل كاهله، ثم يُقال لمن يعاني من كل ذلك: ''خفّف من الأكل''، اتبع ''الحمية''! وتوصف له الأدوية المناسبة ليعود إليه تعادله، بمعنى صيام ضمني طوال السنة! ولكن، شتان بين صيام قهري مشفوع بقوائم من السموم الكيميائية ربما تُفسد أكثر ما تصلح، وصيام رمضاني طبيعي فطري يُسعد النفس روحياً، ويصحح مسيرة الجسد تلقائياً، بلا دواء، فضلاً عن حُسن الجزاء..! إذاً، في رمضان يستطيع الصائم أن يستكشف فعلاً أن الراحة الجسدية الحقة تكمن في التوازن والاعتدال في المأكل والمشرب، وأن المغالاة في اكتناز الفائض في البطن مفسدة للجسد، الذي تكفيه ما يحتاج إليه فعلاً من سعرات حرارية وما تبقى يتخمر في البطن، ولو طُبق ذلك لوصلنا إلى تشييد مجتمع الكفاية!
أما صلاحية الصيام في هذا العصر، وكل عصر، على المستويين النفسي والاجتماعي، نجد أن رمضان مدرسة عملية للتواصي بالصبر وكبح الشهوات، وتحكم المشاعر الروحية السامية، وسيطرتها، بحيث نتعلم كيف نتعامل مع نفس كثيراً ما تكون أمَّارة بالسوء، وتحتاج إلى إرادة قوية لصدها، ومناعة تقوي حصانة الصائم أمام المشهيات والمغريات.. فشهر رمضان تجربة نفسية خلاقة تصنع المؤمن الصابر، المواجه لنفسه، المتعالي عن المستهلكات، المترفع عن الإسفاف، القادر على العيش في كل الظروف.. وهدفه مرضاة الله..
هذا الجانب النفسي في صلاحية الصيام، هو الذي يدعم تأهيل المسلم ليلعب دوره أسرياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وتربوياً، في شكل متعادل، مرن متوازن، بلا تطرّف أو مغالاة، بعيداً عن الزيغ والانفعال، ليصبح المستوى الاجتماعي، بعد المستوى التعبدي والروحي، من أروع مستويات صلاحية صيام شهر رمضان في كل عصر، باعتبار أن الجسدي والنفسي، دائماً في خدمة المجتمعي، وأن بناء المجتمع بمفهوم الأمة، في الإسلام، من أسمى أهدافه وغاياته الدنيوية ربطه بمآلاته الأخروية ومصيره. فرمضان يعلمنا اجتماعياً أن المعاناة والحرمان والجوع والظمأ والكدح، ليست مجرد عبارات وألفاظ.. بل أفعال توصله إلى معرفة واقع المجتمع الذي يعيش فيه، فيشارك في رفعة وإعانة وتلمس حاجات أخوته في هذا المجتمع، فيكون رمضان شهر المشاركة والتضامن الفعلي بين فئات المجتمع الإسلامي، شهر الانضباط والطاعة في سلوك الأمة وجماعاتها لما فيه خيرها.
إن صيام شهر رمضان، بما فيه من تهذيب للجسد والنفس، وتحقيق لمجتمع الكفاية، والأخوة والمساواة، لا يمكن لعقل واع، ليست له مبيتات أو خلفيات في القرن الواحد والعشرين، أن ينكر صلاحيته وفائدته، جسدياً ونفسياً واجتماعياً في هذا العصر وكل عصر، وصدق الله - العلي العظيم - القائل: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).. اللهم تقبل منَّا الصيام والقيام.. واجزنا خير الجزاء.