صعود السلفية السياسية في مصر بعد الثورة وحالة الذعر الجماهيري
كان من المُفترض أن تكون التظاهرات الحاشدة التي شهدتها بعض الساحات الكبرى في المدن المصرية يوم الجمعة 29 تموز (يوليو) 2011 مخصصةً لوحدة الصف ولمّ الشمل. على أن ما حدث فعلاً، وكنت شاهداً عليه في ميدان التحرير في القاهرة، كان بمنزلة زلزال سياسي كبير أحدثه أنصار التيار السلفي في مصر المحروسة. وأظن أن توابع هذا الزلزال آتية لا ريب فيها. فالشعارات التي رفعها المتظاهرون اتخذت طابعاً دينياً خالصاً من قبيل: "ارفع رأسك فأنت مسلم" و"الشعب يريد تطبيق الشريعة" و"لو لم أكن سلفياً لوددت أن أكون" وهَلُمَّ جَرّا.
واللافت للانتباه أن هذا الانفجار السلفي الذي شهدته القاهرة والإسكندرية في ذلك اليوم قد أدّى إلى تلاشي القوى السياسية الأخرى بما فيها "الإخوان المسلمون" والتي ذابت ــــ بقدرة قادر ـــ وسط هذه الأمواج العاتية من أنصار الدعوة السلفية، وهو ما أدّى إلى خلق حالة أقرب ما تكون في تحليلات علم النفس العام إلى الذعر الجماهيري. فكيف نفهم ما حدث؟ وما دلالات ذلك بالنسبة لتطورات المشهد السياسي المصري في مرحلة ما بعد (ثورة يناير) المجيدة؟
محاولة للفهم والتحليل
لقد بات واضحاً أن التيارات الليبرالية المناهضة لأفكار الإسلام السياسي في مصر وحّدت جهودها من خلال استقطاب بعض القوى الثورية من الشباب تحت شعار الدولة المدنية الديمقراطية. وبلغ شطط بعض هؤلاء إلى القول بإلغاء المادة الثانية من الدستور المصري، التي تنص على هوية مصر الإسلامية، والدعوة مقابل ذلك إلى حرية الأديان والمعتقدات على إطلاقها. واتجهت بعض القوى السياسية مثل حركة "كفاية" وحركة "شباب 6 أبريل" إلى الاعتصام في ميدان التحرير بحجة عدم تحقق أهداف الثورة المصرية. ونظراً لهيمنة بعض رموز التيار الليبرالي على وسائل الإعلام التي لا تزال تعمل تحت تأثير الخوف من "فزاعة" الإسلاميين التي روّج لها النظام السابق، فقد تم الترويج لمقولات "الدستور أولاً" أو ضرورة وضع مبادئ فوق دستورية ملزمة.
ووصل الأمر ببعض القوى الليبرالية إلى الزعم بأنها تمثل وحدها الثورة المصرية، وأنها بصدد تشكيل هيئة تنسيقية عليا للحديث باسم هذه الثورة العظيمة، التي لم تعرف يوماً قائداً لها أو عقلاً مفكراً يوجّهها ويرشدها. وعليه، فإن ما حدث يوم الجمعة 29 تموز (يوليو) كان بمنزلة رسالة واضحة لتلك القوى والتيارات الليبرالية ومَن يساندها في مصر. فالطوفان العددي للإسلاميين يخالف منطق الظواهر "الافتراضية" التي روّج لها الإعلام طويلاً ولا تمتلك وجوداً حقيقياً على الأرض. المفارقة هنا بين المنطق الظاهري أو الافتراضي وبين المنطق العددي الواقعي الذي يعبّر عن المحيط الاجتماعي.
وثمة عوامل أخرى تبرّر هذا التدافع السلفي والإسلامي على ميدان التحرير، في محاولة بارعة لاستعراض القوة، ومن ذلك: الرغبة في طرح قضية تطبيق الشريعة على المجتمع المصري بما يعنيه ذلك من إثارة النقاش والحوار حولها. أضف إلى ذلك الإعلان الصريح عن رفض الإسلاميين فكرة المبادئ فوق الدستورية المُلزمة، وهي التي طالبت بها وصاغتها القوى العلمانية والليبرالية، وأبدى المجلس العسكري استجابة لها. ولا شك أن إحساس الإسلاميين بالإقصاء رغم كونهم يشكلون قطاعاً عريضاً من المجتمع المصري، قد دفع بهم إلى التحرُّك الإيجابي بغرض فرض منطق ورؤية الأغلبية وحتى لا يتم فرض رأي الأقلية على إدارة المرحلة الانتقالية في مصر.
دلالات وتحولات
أحسب أن القراءة الفاحصة للمشهد السياسي المصري اليوم، تظهر وجود بعض الحقائق التي ينبغي أخذها في عين الاعتبار عند التنبؤ بمستقبل المرحلة الانتقالية في مصر بعد الثورة، ومن ذلك ما يلي:
أولاً: بروز ما يمكن تسميته بالسلفية السياسية باعتبارها القوة الأكبر في مصر من حيث التأييد الشعبي لها. وهذا التأييد يفوق في حجمه وقوته ما تحظى به الجماعات الأخرى والأحزاب السياسية، بل ومؤسسات المجتمع المدني ذات التوجّه الليبرالي. وقد ظل دعاة التيار السلفي منذ السبعينيات يعملون في المساجد، ولا سيما في كل من الإسكندرية والقاهرة، فمالت إليهم أفئدة الناس في المناطق الفقيرة والعشوائية، ثم امتد تأثيرهم إلى القرى والنجوع في مختلف أنحاء المحروسة، بيد أن انفجار (ثورة يناير) العظيمة أدّى إلى إلهام شباب السلفية للخروج إلى النور والمشاركة في الحياة السياسية. ولذلك فقد فُوجئ المحللون والمتابعون للشأن المصري بقدوم وافد جديد ليس له منهج سياسي واضح، ولكنه يمتلك مصدراً هائلاً من التأييد الشعبي. وتلك هي المفارقة المثيرة للاهتمام.
ثانياً: اتجاه التيار السلفي إلى الاهتمام بالجانب المؤسسي والتنظيمي. فقد كان مشايخ السلفية ودعاتها عادة ما يركنون إلى الدور الدعوي والخدمي للمسجد، ولكنهم بعد (ثورة يناير) اتجهوا إلى تأسيس بعض الائتلافات والتنظيمات السياسية. ومن ذلك على سبيل المثال "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح" والتي تدعو لوحدة علماء الأزهر مع علماء السلفية في كيان واحد تحت رئاسة مفتي مصر الأسبق الشيخ نصر فريد واصل. وهناك أيضا "حملة الدفاع عن هوية مصر الإسلامية" التي تؤكد على المادة الثانية من الدستور المصري وتطالب بتفعيلها والكشف والرد على المغالطات والشبهات التي يسوقها أصحاب الدعوات العلمانية. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، وإنما ظهر "حزب النور"، باعتباره ممثلاً للتيار السلفي في المشهد السياسي المصري الراهن.
ثالثاً: التحالف بين السلفيين و"الإخوان المسلمون"، وقد ظهرت ملامح ذلك التحالف السياسي في مؤتمر حاشد عُقد منذ بضعة أشهر في حي الهرم على الرغم من وجود جانب كبير من الاختلاف الفكري والسياسي بين الطرفين. بيد أن مفتي السلفية الشيخ محمد عبد المقصود، يرى أن "الإخوان" هم أقرب فصيل سياسي للتيار السلفي. وعليه، فإن مثل هذا التحالف يمثل قوة انتخابية لا يُستهان بها في أي انتخابات قادمة تشهدها مصر. ولعل ذلك يدعو إلى مزيد من التأمل والتبصر في مآلات الأمور المصرية.
المخاوف من البديل الإسلامي
في استطلاع للرأي نشرته قناة "الجزيرة" الفضائية يوم السابع من تموز (يوليو) 2011 تحت عنوان "أي من الأحزاب التالية ستصوت في الانتخابات البرلمانية القادمة؟" حصل حزب الحرية والعدالة الإخواني على النسبة الأعلى (46 في المائة) يليه حزب النور السلفي (27 في المائة). يعني ذلك ببساطة شديدة إمكانية هيمنة الإسلاميين على الانتخابات القادمة. وعلى الرغم من إعلان "الإخوان المسلمون" رفضهم الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، فإن ذلك لا يعني إمكانية دعمهم لمرشح معين. وهو الأمر الذي يجعل القوى العلمانية والليبرالية بعيدة عن الفوز في الانتخابات المقبلة.
ولا شك أن تلك التطورات تبدو مثيرة للقلق، بل مخيفة لبعض القوى الليبرالية في الداخل المصري وفي الخارج أيضاً، والتي ترى في تولي الإسلاميين السلطة خطراً داهماً على مصر واستقرارها. وربما تكون أحداث العريش وما تشهده من هجمات لبعض قوى السلفية الجهادية على أقسام الشرطة وأنبوب نقل الغاز المصري لكل من الأردن وإسرائيل ذريعة يستخدمها البعض لمهاجمة صعود الإسلاميين في مصر. ألم تحذر بعض الكتابات المصرية من سعي السلفية إلى تأسيس الإمارة الإسلامية في ميدان التحرير بعد سعيهم لفرضها بالقوة في سيناء؟
وأياً كان الأمر، فإن الحقيقة على غير ذلك لأسباب عدة، منها: إن التيارات الإسلامية غير متجانسة فكرياً وبينها مساحات اختلاف واسعة، وهو الأمر الذي يقف حائلاً أمام تطوير نسق فكري متجانس على غرار ما هو سائد في الحالة الإيرانية مثلاً. يعني ذلك استحالة تكرار النموذج الإيراني في مصر. أما الأمر الثاني فيتعلق بجملة التطورات التي شهدتها جماعة "الإخوان المسلمون" منذ نشأتها عام 1928 وحتى اليوم حيث إنها في الغالب باتت تتبنى برامج وسياسات ذات طابع برجماتي يميل إلى حصد التأييد الشعبي. فالجماعة تدرك جيداً أن مصر بها جماعة وطنية قبطية يعتد بها، وهو ما دفع بها لتجعل نائب رئيس حزب الإخوان مفكراً قبطياً مرموقاً هو الدكتور رفيق حبيب. وفوق ذلك كله فإن هناك إدراكاً عاماً لدى القوى السياسية المصرية بأن قيادة مؤسسة الجيش، التي يعترف الجميع بوطنيتها وبدورها المحوري في حماية (ثورة يناير)، هي ذات توجهات ليبرالية موالية للولايات المتحدة والغرب. ولعل ما يبعث على التفاؤل في الحالة المصرية هو أن المصريين أنفسهم على وعي تام بأن حكومة ديمقراطية منتخبة ستكون قادرة على تحقيق تطلعاتهم وآمالهم وذلك بمساندة من الجيش والمجتمع الدولي. وأثبتت روح ميدان التحرير وغيره من الميادين في المحافظات المصرية الأخرى، أن الجماهير العريضة عازمة على المُضي قدماً بالثورة حتى استكمال أهدافها. وعليه، فإن فشل أي حكومة قادمة سواء كانت إسلامية التوجّه أو علمانية سيعني استمرار التدهور العام والاضطراب السياسي، وهو أمر لا تُحمد عقباه، ولا يرتضيه أحدٌ من القوى السياسية السائدة. فليعتصم المصريون جميعاً بحبل واحد، ولينظروا إلى المستقبل بعقلٍ مفتوحٍ لبناء غدٍ أفضل لمصر المحروسة.