Author

ثقافة الصحة (2)

|
في البداية أود أن أشير إلى سبب تغيير عنوان المقال من ثقافة المرض إلى ثقافة الصحة، وذلك لأن كلمة مرض ربما هي كلمة ثقيلة على أسماع وأذهان القراء، فهي كلمة كئيبة وتعكر مزاج الإنسان، وبالتالي فهي من الكلمات غير المرغوب فيها، وبالأخص في عصرنا الحالي المملوء بالمنغصات. والسبب الثاني الذي دفعني إلى الانتقال بالثقافة من المرض إلى الصحة هو أن المرض أمر عرضي في حياة الإنسان، وأن الأصل هو صحة الإنسان، فدور الثقافة أن تحمي للإنسان صحته وسلامته الجسدية والذهنية والعقلية والعاطفية، والمرض هو انحراف واعوجاج في هذه الجوانب من حياة الإنسان، التي لا تحدث إلا عندما يكون هناك إهمال أو تراخ من الإنسان مع نفسه، فالأصل ارتباط الثقافة بالصحة. دور الثقافة تصحيح الاعوجاج أو الانحراف في أصله وفي أساسه، وهذا الأصل والأساس إنما يحدث في داخل نفس الإنسان، ومن ثم تستطيع الأمور الأخرى من معالجات وغيرها أن تفعل فعلها وتعالج المرض، فالله - سبحانه وتعالى - يقول في كتابه الكريم "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" – الآية: رقم 11 - سورة الرعد. فإن حدث هناك انحراف أو اعوجاج في صحة الإنسان فقد سبقه انحراف في داخل نفس الإنسان، ومعالجة هذا الانحراف في الصحة لا بد من أن تبتدئ بتصحيح أصل الانحراف الموجود في داخل النفس إذا أردنا فعلا معالجة مستدامة وليست معالجة مؤقتة. وهناك سبب آخر وراء تغيير العنوان هو أن كلمة الصحة كلمة تعبدية، لأنها تذكرنا بنعمة هي من أهم النعم التي يعيش بها الإنسان في هذه الحياة. كل العبادات التي يقوم بها الإنسان من صلاة وغيرها توزن بمقدار ما تحدثه في النفس من خشية من الله، وأهم طريقين للحصول على الخشية من الله هما أولا: التفكر في عظمة الله، فالنظر في هذا الكون وما فيه من عظمة وإبداع وجمال يشعر الإنسان بأنه أمام رب عظيم، وأما الطريق الآخر للشعور بالخشية فهو تذكر النعم، فالله - سبحانه وتعالى - هو المانح لهذه النعم، وشكر المنعم حالة تعبدية، وهو أيضا من سمات العقلاء، فتذكر نعمة الصحة وشكر الله على هذه النعمة فعلا يجلب الشعور بالخشية. ونقطة أخيرة وهي أني في الوقت الحاضر على الأقل لا أدري كم سأحتاج من مقالات لمناقشة هذا الموضوع، ولهذا سأترك العدد مفتوحا حتى أتيح لنفسي الفرصة لمناقشة كل الجوانب التي أرى أن لها علاقة بصحتنا في مختلف جوانبها البدنية والنفسية والعقلية. ذكرنا في المقال السابق أن موضوع الصحة والمرض موضوع له علاقة بطاقة الحياة عند الإنسان، فالإنسان يمرض عندما تنقص عنده طاقة الحياة، والنقص في هذه الطاقة يؤدي إلى درجات من الضعف، والضعف يؤدي إلى الإصابة بالمرض، وعودة الصحة ترتبط بعودة الطاقة إلى مستواها الطبيعي عند الإنسان، وقد تتكفل هذه الطاقة الإلهية العائدة إلى مستواها الطبيعي إلى تصليح ما حدث من عطب بسبب نقصها. لكن السؤال الصعب الذي علينا ألا نتعب في المحاولة للإجابة عنه هو: كيف لنا أن نتعرف وأن نزداد معرفة بطبيعة هذه الطاقة التي أعطت الإنسان الحياة، التي بفضلها استطاع الإنسان أن يكون كائنا حيا يمتلك كل القدرات والإمكانات التي تمكنه من أن يعيش على هذا الكوكب وأن يمارس دوره كإنسان. كل هذا الوجود ما كان له أن يوجد لولا النفخة من روح الله، وهذه النفخة هي طاقة الوجود وطاقة الحياة. "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" - الآية رقم 40 - سورة النحل. والإنسان جزء من هذا الوجود، وبالتالي لديه نصيب من هذه الطاقة، طاقة "كن فيكون"، ووجوده قائم على هذه الطاقة. "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" الآية رقم 59 - سورة آل عمران، فجزء من طاقة الحياة عند الإنسان طاقة يشترك فيها مع كل الموجودات، وفي هذا الإطار نستطيع أن نقول إن صحة الإنسان عموما ترتبط في جزء منها بعلاقته مع الطبيعة، فعندما يكون هناك اختلال في مسرى هذه الطاقة بين الإنسان والطبيعة تختل صحة الإنسان. وهذه الحقيقة - مع الأسف - لم يلتفت إليها الإنسان إلا متأخرا، فلقد كان ينظر إلى الطبيعة على أنها خلقت وسخرت له من غير ضوابط وسنن إلهية، فصار يلهو بها ويستنزف مواردها ويعبث بطبيعتها ولا يكترث بقوانينها، وكانت النتيجة أن أحس الإنسان بالعواقب الصحية لعبثه وتهوره في تعامله مع الطبيعة. وفي هذا الإطار سنناقش كيف تتأثر صحة الإنسان عندما يعيش في مسكن مريض أو مدينة مريضة. ولما كان الإنسان سيد المخلوقات وأعظم الموجودات، وكي تتحقق إنسانية هذا المخلوق وعظمته فلقد أنعم الله عليه بدرجة أرقى من نفخته المباركة، وخير دليل على علو ورقي هذه النفخة أن الله أمر الملائكة بالسجود لهذا المخلوق العظيم، وهو الإنسان. الجزء الأكبر من صحة الإنسان يرتبط بهذه الطاقة المنبعثة من هذه النفخة الإلهية المباركة التي سوته إنسانا سويا وكاملا. "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" - الآية 28 - سورة الحجر. وسجود الملائكة للإنسان يحمل في طياته معاني كثيرة، منها ما يرتبط بموضوعنا عن الصحة. الملائكة عناوين للقدرات والإمكانات التي تدير هذا الوجود، والتي سخرت للإنسان بفضل هذه النفخة المباركة، فسجود الملائكة للإنسان، وهو المخلوق العظيم، يوحي لنا بأن مسلك الوصول إلى هذه القدرات والإمكانات التي عند الملائكة والتي أمرت بطاعة هذا الإنسان هو عن طريق الإمساك بهذا النور الإلهي وبهذه الفيوض الربانية التي هي موجودة في داخلنا. وصحة الإنسان بشكلها المطلق في بقاء هذه المسالك مفتوحة بلا عوائق، بل عند الإنسان فرصة لزيادة عدد هذه المسالك للوصول إلى هذا النور الإلهي، لأن رحمة الله واسعة، فهي وسعت كل شيء، وأن الله قريب منا فعندما ندعوه ونتقرب إليه فسيستجيب لنا بالمزيد من هذه الفيوض الإلهية بشرط أن نسلك طريق الله بإخلاص واجتهاد. صحتنا مرهونة بتوهج هذا النور الإلهي في وجودنا، أما المرض فهو لا يحدث إلا عندما تكون هناك إعاقة لمسرى هذا النور في طبقات وجودنا. فأبداننا تعتل وتمرض عندما لا نسمح لطاقة الحياة المستمدة من هذا النور الإلهي الموجود في داخلنا كي تغمر أجهزة الجسم وتمدها بالطاقة المطلوبة واللازمة للبقاء كأجهزة فاعلة وفعالة. فأجسامنا في حاجة إلى هذه الطاقة الإيجابية كي تبقى في صحتها ونشاطها، ومشكلة الإنسان تكمن في عدم فهمه مستلزمات هذه الطاقة، فمثلا يعتبر الطعام والشراب والهواء كلها متطلبات أساسية لأبداننا، لكن هذه الأشياء بقدر ما هي تختزن طاقة إيجابية نحن في حاجة إليها فإنها تختزن أيضا طاقة سلبية. والطاقة السلبية الموجودة في الطعام والشراب إما هي طاقة ذاتية وإما مكتسبة لأمر طارئ عليها إما بسبب فسادها أو نجاستها أو تلوثها، فالدخان المنبعث من التدخين هو هواء، لكنه هواء ملوث ويدخل إلى أجسامنا طاقة سلبية مدمرة، فهذه الطاقة السلبية تقصف خلايا الجسم فتحرقها وتحيلها إلى خلايا متورمة وخبيثة. والطعام المحقون بالمواد الحافظة والملونة والمحليات الصناعية هو الآخر طعام فيه طاقة إيجابية، لكنها قليلة مقارنة بما تنقله إلى الجسم من طاقة سلبية. والأمر نفسه ينطبق على السوائل، فالماء الصافي والنقي يمثل في حد ذاته شحنة من الطاقة الإيجابية "وجعلنا من الماء كل شيء حي" - الآية رقم 30 - سورة الأنبياء، فكل ما يضاف إلى الماء قد يزيد من وجود الطاقة السلبية المختزنة فيه، وعندما تدخل هذه الطاقة إلى أجسامنا فإننا نعرضها إلى المرض. وضرر وجود هذه الطاقة السلبية الموجودة في الطعام قد يتعدى الضرر البدني ويمتد إلى الضرر النفسي والعقلي، وهذا ما سنناقشه عندما نصل في حديثنا إلى موضوع الصحة النفسية والعقلية. والسؤال الذي يأتي بعد هذا الحديث عن الطاقة السلبية والطاقة الإيجابية هو عن دور الطاقة السلبية في حدوث المرض، والجواب عن هذا السؤال هو أن الطاقة السلبية عندما توجد في داخل جسم الإنسان في الحدود المقبولة فإن أثرها يبقى محدودا وللجسم القدرة على التعامل معها وتعطيل مفعولها المرضي، لكن المشكلة عندما تكون هناك معدلات عالية من هذه الطاقة السلبية، فعند ذلك تتحول هذه الطاقة إلى حواجز ومصدات تعوق طريق طاقة الحياة وتمنعها من الوصول إلى أجزاء أجسامنا، وبذلك قد يحرم الجسم كله أو بعضه أو عضو منه من الأثر الإيجابي لهذه الطاقة للحفاظ على صحتنا. الأكل الزائد عن حاجتنا والأكل الملوث بالمواد الملونة والإضافات كلها تولد في جسم الإنسان طاقة سلبية أكثر من الحد الممكن للجسم التعامل معه وبمواصلة الإنسان على هذا الحال تتراكم في جسمه المزيد من الطاقة السلبية، وبزيادتها تزداد الحواجز التي تقف في طريق طاقة الحياة ويزداد ارتفاعها وبذلك تبدأ أعضاء وأجهزة جسم الإنسان بالضعف وبالتدريج يحدث المرض. ثقافة الصحة تتطلب منا أن نفهم كيف تتعامل أجسامنا مع الطعام والشراب، فحاجة الجسم إليها موزونة ومحددة بمقادير، وهذه الحاجة المحدودة للطعام تزاحمها شهوة حب الطعام والشراب، فالشهوة تدفع بالإنسان إلى الاستزادة من الطعام والشراب من غير حساب لما ستنقله إلى الجسم من طاقة سلبية. وللحديث تتمة...
إنشرها