فضيحة صحافة مردوخ .. إمبراطورية إعلامية في طور الانهيار

ما زالت ارتدادات وإرهاصات الفضيحة الصحافية المدوية التي ضربت إمبراطورية روبرت مردوخ الإعلامية، تتفاعل في هذه الأيام في بريطانيا، ولم تتوقف عند إغلاق صحيفة ''نيوز أوف ذي وورلد'' ذائعة الصيت التي كانت تتسيد الصحافة البريطانية لفترة طويلة من الزمن بوصفها الصحيفة الأكثر مبيعاً، بل امتدت إلى سحب شركة نيوز كورب التابعة لمردوخ عرض شراء بقية أسهم المؤسسة الإعلامية ''بي سكاي بي'' المكونة من مجموعة من القنوات الفضائية. ووصل زلزال فضيحة التنصت، وما رافقها من رشوة ضباط شرطة بريطانيين، إلى الولايات المتحدة، حيث ترددت الأحاديث حول عزم وزارة العدل الأمريكية على النظر في إمكانية فتح تحقيق رسمي حول ما إذا كانت شركة نيوز كوربوريشن، التي يسيطر عليها مردوخ، قد حاولت اختراق البريد الصوتي لضحايا أحداث 11 من أيلول (سبتمبر) 2001، وذلك بعد أن فتح مكتب التحقيقات تحقيقاً أولياً بهذا الخصوص، الأمر الذي يهدد بسقوط إمبراطورية مردوخ الإعلامية وإنهاء سطوته وسيطرته التي دامت عشرات السنين.
وتطرح فضيحة التنصت، التي أطاحت بصحيفة ''نيوز أوف ذي ورولد''، قضية دور ومهمة الصحافة والأخلاقيات الصحفية في عالم اليوم، وذلك بعد أن حوّلها أباطرة وسائل الإعلام إلى مجرّد أداة لمراكمة الثروات وجمع الأموال، بصرف النظر عن الوسيلة والطريقة المفضية إلى ذلك، فجعلوا مهام الصحافة تنحرف باتجاه ابتزاز السياسيين والمشاهير، ونشر الفضائح والشائعات والتفاهات، مبعدين الصحافة عن وظيفتها الاجتماعية والرقابية والتنويرية، وعن معرفة حدود اشتغالها، وإيجاد مساحات جديدة، وخلق فضاءات مبتكرة في عالم اليوم، الذي يشهد دخول منافسين حقيقيين لعالم الصحافة مع انتشار وسائل الاتصال الحديثة، وخصوصاً الثورة الهائلة التي أحدثتها شبكة الإنترنت في عالم القراءة والكتابة والنشر.

فضيحة التنصت

بدأت خيوط فضيحة التنصت بالتكشّف عندما نشرت صحيفة ''الجارديان'' خبراً عن أن محققين خاصين يعملون لحساب صحيفة ''نيوز أوف ذي وورلد''، قاموا بالتنصت على هاتف فتاة تدعى ''ميلي داولر'' قتلت في عام 2002، وذلك خلال عمليات تحري الشرطة البريطانية عن اختفائها، حيث جنّدت الصحيفة مخبراً كان يتنصت على البريد الصوتي للضحية. وتعمّد المخبر محو الرسائل الصوتية لهاتف الضحية الخليوي، وذلك للإيحاء لأهلها وأقربائها وللشرطة بأنها على قيد الحياة، الأمر الذي عطّل عمليات التحقيق. وقد أثار الخبر استياء شديداً في أوساط الرأي العام في بريطانيا، وحوّل الصحيفة الأكثر مقروئية إلى الصحيفة الأكثر مكروهية.
وعلى أثر نشر الخبر اعتقل عدد من موظفي صحيفة ''نيوز أوف ذي وورلد''، ثم توالى الكشف عن خيوط الفضيحة لتتعدى مسألة التنصت على البريد الصوتي للفتاة المقتولة عام 2002 إلى تقديم رشا لضباط شرطة، وعمليات تنصت وابتزاز للعديد من السياسيين ومشاهير الرياضة والسينما، ثم ظهر أشخاص آخرون كانوا هدفاً للتنصت، مثل ضحايا جرائم القتل المختلفة، والجنود الذين سقطوا في حربي أفغانستان والعراق، وضحايا تفجيرات لندن الإرهابية في عام 2005. وهو ما دفع العديد من السياسيين البريطانيين إلى التنديد بمردوخ علانية، بعد أن كانوا يطلبون ودّه ورضاه ويتجنبون إزعاجه في السابق. وقد أصابت شظايا فضيحة التنصت رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، لأن آندي كولسون، رئيس التحرير السابق لـ ''نيوز أوف ذي وورلد'' والمعتقل في القضية، كان أحد مساعدي كاميرون ذاته، الأمر الذي أحرج الأخير واضطره للمطالبة بفتح تحقيقات عامة حول الفضيحة.واضطر مردوخ للانحناء أمام هول الفضيحة وزلزالها المدمر، فقدم اعتذاراً لكل من وقع ضحية للتنصت، مع الوعد بأخذ الإجراءات اللازمة لمعالجة المشكلة وتعويض المتضررين. ثم سارع إلى إغلاق الصحيفة الأسبوعية ''نيوز أوف ذي وورلد'' بعد 168 عاما من الصدور، وإلى التخلي عن صفقة استحواذ كبرى على شبكة ''بي سكاي بي'' التلفزيونية الخاصة. لكن مسلسل الضغوط المطالبة بالتحقيق في أنشطة مردوخ، انتقل أيضاً إلى الولايات المتحدة التي يملك فيها عدداً من كبريات المؤسسات الإعلامية مثل صحيفتي ''نيويورك بوست'' و''وول ستريت جورنال''، إلى جانب شبكة ''فوكس نيوز'' التلفزيونية. وقد بدأ مردوخ يفقد سيطرته على قنوات الكابل التي يمتلكها في الولايات المتحدة، وهناك من يعتبر أن أيامه باتت معدودة في رئاسته لشركة ''نيوز كوربوريشن''، خصوصاً بعد استقالة ''ليس هينتون'' المدير العام لشركة ''داو جونز''، أحد الفروع الأمريكية لمجموعته، واستقالة ريبيكا بروكس المديرة العامة للمجموعة الإعلامية ''نيوز إنترناشيونال''، حيث يعد كل من هينتون وبروكس بمثابة الذراعين القويتين لروبرت مردوخ. وفي سياق التحقيقات الجارية في الفضيحة، قامت اللجنة البرلمانية البريطانية المكلفة بالتحقيق، باستدعائه، وذلك للإجابة عن بعض الأسئلة التي تتعلق بتورط بعض الصحف الأخرى التي يملكها، مثل صحيفة ''ذي صن'' الشعبية وصحيفة ''صنداي تايمز'' في القضية نفسها.

إمبراطورية مردوخ

يُعرف روبرت مردوخ بإمبراطور الإعلام العالمي، نظراً لامتلاكه أهم وأكبر المؤسسات الإعلامية التي تضم أشهر الصحف والمحطات التلفزيونية في بريطانيا وبعض البلدان الأوروبية الأخرى، إضافة إلى الولايات المتحدة وأستراليا وسواهما من بلدان العالم الأخرى. وهو رجل يميني متشدد وصديق لمجموعة ''المحافظين الجدد''، ومعروف بمواقفه المنحازة لإسرائيل والمدافعة عن ممارساتها العدوانية ضد الفلسطينيين والعرب.
وترجع بدايات تكوين إمبراطوريته الإعلامية إلى أواخر ستينيات القرن الـ 20 الماضي، حيث بدأ نشاطه في بلده أستراليا، من خلال شرائه صحيفة ''الديلي ميرور'' وصحيفة ''أستراليان''، ثم أنشأ محطة تلفزيون ''القناة 10''، وراح يوسع نشاطه في سبعينيات القرن الـ 20 بشرائه صحيفة ''نيوز أوف ذي وورلد'' الأسبوعية البريطانية، وصارت واحدة من أكثر الصحف البريطانية توزيعاً وأوسعها انتشاراً. وبعد ذلك قام بشراء صحيفة ''ذي صن'' حين قاربت على الإفلاس، وأعاد إطلاقها من جديد كي تغدو إحدى أكثر الصحف المقروءة في بريطانيا، ثم قام بشراء صحيفة ''تايمز'' بعد تعرضها لأزمة مالية كبيرة. وبعد عدة سنوات صار مردوخ يمتلك نسبة 40 في المائة من الصحف البريطانية، واستطاع الحصول على هذه النسبة بناء على موافقة استثنائية من الحكومة التي كانت ترأسها مارجريت تاتشر، ومكّنته من تجاوز قانون منع الاحتكار البريطاني.
وأسس مردوخ في عام 1985 شركة نيوز كوربورايشن في أستراليا، كي يدير تحت مسماها معظم أعماله، ونظراً لضخامتها وسعة انتشارها تشبه بالعملاق الذي يريد الدخول إلى كل مكان في العالم. وتمتاز هذه الشركة بهيكليتها الخاصة التي تضم داخلها ما يقارب الـ 700 شركة، إلى جانب اتساع حجم عملياتها التي تديرها في أكثر من 60 دولة. ويعزو بعضهم تعقيد بنية شركته إلى محاولة مردوخ الاستفادة القصوى من قوانين الضرائب في دول العالم.
وقد ركز مردوخ في الصحافة التي يملكها على سياسة تحريرية تنهض على متابعة وملاحقة المشاهير، من نجوم السينما والرياضة، والتركيز على الفضائح والإثارة الجنسية الفاقعة، وكأن الصحافة بالنسبة إليه تهدف إلى إشاعة ممارسة الإثارة الفاقعة ومخاطبة الشهوات والتجسس على حياة الناس الخاصة، ونشر ما فيها من فضائح وهفوات، وبما يكرس تقديس المشاهير وتمجيد الانحلال الأخلاقي والإنساني، والهدف من كل ذلك هو تحقيق أكبر ربح ممكن وجمع الأموال بأية طريقة كانت. وتمكن من ابتزاز رجال السياسة والتواطؤ معهم، وعقد صفقات مشبوهة مع رجال الدولة والبرلمانيين في بريطانيا والولايات المتحدة، كما تمكن من توظيف سطوته وسيطرته الإعلامية لصالح توسيع إمبراطوريته على حساب أي شيء يمكنه الوقوف في طريقه. وفي سياق ذلك استطاع شراء بعض المسؤولين في النقابات العمالية، حيث تمكن من الانتصار على نقابة عمال الطباعة البريطانية، وقام بطرد آلاف العمال من دون أي إنذار مسبق.

التفكير في الصحافة

تشكل فضيحة مردوخ الصحفية مناسبة لإعادة التفكير في الصحافة ومختلف وسائل الإعلام، وفي دورها وحدودها، والهدف منها ومحددات اشتغالها، لكن الملفت أن الفضيحة جرت في بريطانيا ذات التقاليد الصحفية العريقة، وجاءت بعد إدراك المجتمعات الديمقراطية ضرورة استقلال وسائل الإعلام عن سيطرة الدولة، وظهرت اتجاهات فكرية عديدة بهذا الخصوص. وقد عبّر التعديل الدستوري الأمريكي الأول في عام 1791 عن أقسى درجات استقلال الإعلام عن الدولة، حيث حرم التعديل الدستوري واجتهادات المحكمة العليا على الحكومة امتلاك أو المساهمة بأي وسيلة إعلام داخل حدود الولايات المتحدة أو فرض أي نوع من الرقابة على الصحف أو إعاقة وصولها إلى المعلومات، وجاء فيه ''إن الكونجرس لن يصدر أي قانون يحد من حرية الرأي أو من حرية الصحافة''.
وفي دول أوروبا الغربية اعتبر الإعلام خدمة عامة ينظر من خلالها إلى الصحافة بوصفها صحافة رقابة شعبية تراقب الحكومة والسلطة بشكل عام لحساب الجمهور العام، وذلك بالاستناد إلى الاعتقاد بأن مراقبة عمل وأداء الحكومة هي الوظيفة أو الدور الأساسي للصحافة الذي يفوق كل وظائفها الأخرى في الأهمية. وبناء على ذلك سنّت قوانين تكفل عدم تدخل الحكومة سياسياً أو مالياً في الصحافة، من منطلق أن التدخل سيؤثر على وظيفة المراقبة. واعتبر الاستقلال المالي أحد الأركان الضامنة لعدم تدخل الحكومة، إذ حين يدفع المواطن ضريبة مباشرة، فإن حصيلتها تعود إلى وسائل الإعلام العامة التي يشرف عليها مجلس وطني للإعلام منتخب ومستقل عن الحكومة، يقوم بتعيين مديري وسائل الإعلام العامة والإشراف عليها، وهو أمر معمول به في بريطانيا وفرنسا وألمانيا على وجه الخصوص.
غير أن الأمور لم تسير في الاتجاه الصحيح على الدوام، حيث عرفت علاقة الصحافة بالسياسة وبالمجتمع تجاوزات وتغيرات عديدة، وفي كل مناسبة أو أزمة كبرى كان على الصحفيين ومتابعي الصحف والمهتمين بالوسائط الإعلامية الأخرى إعادة النظر في مهنة الصحافة، والتفكير في دورها ووظائفها المجتمعية دون نسيان حدود اشتغالها.
وإن كانت الصحافة، ومعها مختلف وسائل الإعلام، تستخدم وسائلها الخاصة للتواصل والاتصال بالناس، فإن دورها لا يخرج عن تقديم خدمة إخبارية موضوعية عن الأحداث الجارية، داخل البلد وخارجه، لجميع أفراد المجتمع، بل ومساعدتهم على الفهم وتنوير عقولهم وإضاءة مساحات التفكير لديهم، ولا يعني ذلك عدم سعيها إلى تحقيق الربح بالطرق الشرعية وفق القوانين المتبعة في دول العالم.غير أن الصحافة لا تنشر أي شيء كان، ولا تقذف بالأشياء التي تضر بالبلد وبحياة ناسه، وليس هدفها الإساءة للآخرين لتحقيق الربح ومراكمة الثروة، لأن أولى أبجدياتها هي تحري الدقة والموضوعية والبحث عن الحقيقة في كل ما تنشره من أخبار وتحقيقات ومقالات. ويبدو أن صحف مردوخ وجدت أن الطريق المناسب للنجاح وتحقيق نسب قراءة عالية، بما يعني تحقيق الأرباح، هو التلصص على المكالمات الهاتفية للضحايا وللمشاهير ولبعض السياسيين، إضافة إلى الإثارة الجنسية والشائعات.
ولا تحتاج بريطانيا أو الولايات المتحدة إلى قوانين جديدة لتنظيم عمل الصحافة ووسائل الإعلام، ومع ذلك فإن رئيس الوزراء البريطاني يسعى إلى تشريع نظام جديد لتنظيم الصحافة، مع العلم أن بريطانيا في حاجة إلى تطبيق أفضل للقوانين التي لديها، مثل قانون الأسرار الرسمية الذي يتيح للحكومة البريطانية تقرير ما يمكن ولا يمكن طبعه من الأخبار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي