العرب وجمهورية جنوب السودان
> يمثل يوم التاسع من حزيران (يوليو) 2011 لحظة فارقة في تاريخ السودان الحديث، حيث انقسمت الأمة السودانية إلى دولتين بالإعلان رسميا عن ميلاد دولة جنوب السودان طبقا لمقررات اتفاقية السلام الشامل عام 2005. وقد عكست مظاهر الاحتفال الذي جرت مراسمه في العاصمة جوبا وجود إرادة شعبية جارفة وقفت وراء مطلب الخروج من تحت عباءة الشمال وهيمنة حكومته المركزية. وأحسب أن اللوحة التي رفعت في ميدان الساعة المتواضع في مدينة جوبا وكتب عليها: "وأخيرا.. نحن أحرار" إنما تعبر بلغة موجزة عن الروح النضالية للجنوبيين وفرحتهم بالإعلان عن دولتهم التي سوف تصبح العضو رقم 193 في منظمة الأمم المتحدة.
على أنه لو تركنا جانبا هذه الأمور الاحتفالية وطرحنا بعض التساؤلات المهمة المتعلقة بمستقبل دولة جنوب السودان وعلاقتها بدول الجوار الجغرافي، ولا سيما الدولة الأم في الشمال، حينئذ تصبح لدينا القدرة على الفهم والتحليل ومتابعة ما يجري في منطقة شرق إفريقيا ذات الأهمية الجيوستراتيجية البالغة. على أن ذلك كله لا بد أن يقود إلى السؤال المحوري وهو: أين العرب من كل هذا؟
الجنوب ومشروع تقسيم إفريقيا
من اللافت للانتباه أن مسألة تقسيم القارة الإفريقية من خلال الاستجابة للمطالب الانفصالية بدأ الترويج لها في بعض الدوائر الأكاديمية والبحثية الغربية، باعتبارها وسيلة ناجعة للتخلص من مشكلات الفقر والتخلف والحروب المزمنة في القارة السمراء. وعلى سبيل المثال فإن جيفري هربست عالم السياسة الأمريكي الأشهر وصاحب كتاب "الدول والقوة في إفريقيا"، يرى أن معظم الدول الإفريقية كبيرة الحجم مساحة، وعليه فإنها يمكن أن تستفيد كثيرا في حالة تقسيمها إلى وحدات سياسية أصغر حجما.
وفي عام 2005 صدرت دراسة أخرى بعنوان: "دعونا نتكاتف معا: فهم عجز إفريقيا عن تحقيق المطالب الانفصالية"، حيث يرى المؤلف بيير إنجلبرت أن عدم الرغبة في تقطيع أوصال الدول الإفريقية، وهو ما يؤدي إلى ظهور دول جديدة، يعد السبب الرئيس لتخلف إفريقيا.
ويميل أصحاب هذا الاتجاه الفكري الجديد في الدراسات الإفريقية، الذي يوصف بأنه ما بعد الحداثي، إلى القول إن استراتيجية تقسيم الدول قد طبقت بنجاح في القارة الأوروبية. وتمت الإشارة في هذا السياق إلى حالات سلوفينيا وسلوفاكيا ودولة كوسوفو الصغيرة. وعليه فإن البعض يطالب بضرورة التعامل الإيجابي مع المطالب والحركات الانفصالية في إفريقيا مثل باقي مناطق شمال السودان (لاحظ أن مساحة دارفور تساوي تقريبا مساحة فرنسا نفسها)، وإقليم كازامنس ذي الأغلبية المسيحية في السنغال، وإقليمي شمال الصومال وبلاد بونت، وإقليم زنزبار في تنزانيا، وبعض أقاليم نيجيريا الجنوبية.. وهلم جرا.
على أن هذا الاتجاه الفكري يحمل في طياته نزعة استعمارية جديدة تؤدي إلى مزيد من التشرذم والتجزئة في إفريقيا. وطبقا للشواهد التاريخية فإن الانفصال قد لا يؤدي بالضرورة إلى تحقيق التقدم والرخاء المادي. ويمكن أن نشير إلى حالة إرتيريا التي استطاعت بعد حرب تحرير طويلة (1961 - 1991) أن تعلن استقلالها عن إثيوبيا عام 1993. ورغم ذلك فإنها تمثل اليوم نموذجا صارخا لما تكون عليه الدولة الفاشلة في الواقع الإفريقي.
وفيما يتعلق بحالة جنوب السودان يلاحظ أن الحركة الشعبية التي قادت التمرد ضد الشمال هي التي تهيمن على مقاليد السلطة بعد الاستقلال، وهو ما يعني إقصاء القوى والحركات السياسية المعارضة الأخرى. وقد أثبتت تجارب دول الجوار الإفريقية مثل أوغندا وإثيوبيا وإرتيريا أن المتمردين حينما يخلعون ثيابهم العسكرية ويتحولون إلى ممارسة مهام الحكم في دولهم، فإنهم يميلون إلى الاستبداد وإساءة استخدام السلطة.
ولعل أخطر ما يواجه حكومة جنوب السودان التي تولت السلطة فعلا عام 2005 طبقا لاتفاق السلام الشامل، تفشي الفساد وغياب الشفافية والبعد عن مبادئ الحكم الصالح. ويشير عديد من التقارير الدولية إلى أن الفساد قد مثل أحد ملامح الفترة الانتقالية في جنوب السودان. وقد استدعى أخيرا برلمان جنوب السودان عددا من المسؤولين للتحقيق معهم في قضية اختفاء نحو ملياري دولار أمريكي من الأموال العامة. أضف إلى ذلك فقد مارست السلطات الأمنية والعسكرية في كثير من الأحيان عمليات تضييق على الإعلام والوصول إلى المعلومات. وعلى صعيد التحديات الأمنية ووجود عديد من الفصائل المسلحة المعارضة للحركة الشعبية، نجد أن حصيلة المواجهات العنيفة في جنوب السودان منذ بداية هذا العام قد وصلت إلى نحو 1400 شخص لقوا حتفهم وفقا لبعض التقديرات الدولية. ولعل ذلك كله يبرر القول إننا أمام إمكانية ولادة دولة فاشلة جديدة في المنطقة.
احتواء جنوب السودان عربيا
نظرا للطبيعة الجيوستراتيجية لجنوب السودان، حيث إنه دولة حبيسة ليس لها منفذ إلى البحر، كما أنها تموج بعديد من القبائل والجماعات الإثنية المتنافسة على مصادر الثروة والسلطة فإنه ليس أمامه من خيار سوى الارتماء في أحضان دول الجوار الجغرافي للبحث عن شراكة اقتصادية وللولوج إلى العالم الخارجي. وثمة خياران أمام حكومة جنوب السودان لتحديد وجهتها الخارجية وتفاعلاتها الإقليمية. فهي إما أن تتوجه شرقا عبر أوغندة وكينيا وإثيوبيا لتصبح جزءا من منظومة القرن الإفريقي الكبير، وهو ما يؤكد هويتها الإفريقية، وإما أن تختار التوجه شمالا عبر بوابة الدولة الأم لتصبح في هذه الحالة جزءا من منظومة الإقليم العربي في امتداده الإفريقي.
ويمكن للدول العربية بقيادة مصر وبعض دول الخليج المحورية مثل السعودية والإمارات وقطر الاعتماد على عدد من الركائز التي يمكن أن تكون قوى دافعة لجنوب السودان ليتوجه شمالا نحو محيطه العربي الذي ألفه على مر السنين، ومن ذلك:
أولا: عمق الروابط التاريخية والحضارية التي تربط شعب جنوب السودان بالثقافة العربية الإسلامية، إذ تعد اللغة العربية والثقافة الإسلامية أحد أبرز مكونات شخصية السوداني الجنوبي، فعلى الرغم من القول بإفريقية الجنوب والدعوة التي حملتها نخبته السياسية بضرورة التحرر من عبء الرجل العربي في الشمال، فإن "عربية جوبا" لا تزال عامل توحد واتصال بالنسبة للجنوبيين على اختلاف ثقافاتهم وقبائلهم، كما لا يمكن إنكار تأثير الإسلام في نحو ربع سكان الجنوب الذين يؤمنون به عقيدة وثقافة وهوية مشتركة.
ثانيا: الارتباط الاقتصادي الوثيق بين كل من جنوب السودان وشماله، فخط أنابيب النفط الوحيد الذي ينقل نفط الجنوب يمر عبر الشمال، حيث يصل إلى ميناء بورتسودان. ولا شك أن من مصلحة الطرفين المحافظة على استقرار العلاقة بينهما وعدم العودة للحرب مرة أخرى، من أجل إبقاء العوائد النفطية التي تمثل عماد اقتصاد الدولتين.
ثالثا: تمثل المناطق الحدودية بين شمال السودان وجنوبه مثل ولاية جنوب كردفان ومنطقة أبيي قوى تجاذب وتمازج مشتركة، حيث تصبح الحدود الإدارية الجديدة لا قيمة لها، فأهل هذه المناطق من البدو الرحل يسعون دائما وراء الماء والكلأ غير عابئين بخطوط وضعتها يد الإنسان على الخرائط. ولعل هذا ما دفع البعض إلى القول إن استقلال الجنوب سيكون مسألة صورية تدفع إلى ضرورة إعادة تعريف العلاقة مع باقي أقاليم السودان الكبير.
ولعل ما يؤكد عمق الروابط التي تجمع السودانيين كافة إقرار الرئيس سلفا كير بعد توليه مهام منصبه كأول رئيس لجنوب السودان بعد الاستقلال بحقوق الرعاة من القبائل العربية، ولا سيما حقهم في استخدام مراعي الجنوب، وإقراره كذلك بمبدأ ازدواج الجنسية حتى يتمكن بعض الشماليين المقيمين في الجنوب من الاستمرار في العيش بين ظهراني إخوانهم الجنوبيين.
ما العمل عربيا؟
من الملاحظ أن ثمة ضغوطا إقليمية ودولية هائلة تدفع باتجاه إبعاد الجنوب السوداني عن محيطه العربي ليصبح جزءا من التجمع الاقتصادي لدول شرق إفريقيا. ولعل خطورة ذلك تعني إقامة تحالفات إقليمية جديدة تكون في مصلحة دول أخرى مثل إثيوبيا وإسرائيل، الأمر الذي يفضي لا محالة إلى تقويض الدور المصري في محيطه الإفريقي. وعليه فإن على العقل العربي وكذلك الخطاب الإعلامي السائد أن يكف عن حديث المؤامرة والبكاء على الأطلال وأن يرتفع إلى مستوى الفعل الاستراتيجي البناء. وأحسب أن السفير أحمد بن حلي نائب الأمين العام لجامعة الدول العربية قد أحسن صنعا حينما أكد أن "انضمام جمهورية جنوب السودان للجامعة العربية هو حق أصيل لها لأنها كانت جزءا من دولة عربية انقسمت إلى شطرين". وعلى الرغم من عدم الرضا عن أداء مؤسسات العمل العربي المشترك، فإن مسألة انضمام جنوب السودان لبيت العرب تصبح ذات دلالات رمزية وتحمل في طياتها أبعادا استراتيجية لا يمكن التقليل من أهميتها.
وعلى صعيد آخر، يمكن لمصر وغيرها من الدول العربية الكبرى أن تستخدم بفاعلية أدوات قوتها الناعمة لكسب عقول وقلوب السودانيين الجنوبيين. فالدولة الوليدة على الرغم من مواردها الضخمة من المياه والنفط فإنها تعد من أكثر مناطق العالم تخلفا وفقرا. ومن المعروف أن فترة ما بعد الاستقلال تشهد ثورة عارمة في تطلعات وتوقعات الجماهير. وإذا لم يتم التعامل معها بإيجابية من قبل النخب الحاكمة فإنها تتحول إلى إحباطات متزايدة، وهو أمر لا تحمد عقباه. وعليه فإن على العرب التوجه بخبراتهم واستثماراتهم إلى جنوب السودان. وثمة مبادرات عربية قائمة بالفعل منذ عام 2005 في جنوب السودان، وهو ما يمكن البناء عليه وتعزيزه.
ولعل مصر التي أكسبتها ثورة 25 يناير روحا جديدة قادرة على تصحيح أخطاء الماضي والدفاع عن مصالحها الحيوية بالنسبة لظهيرها الاستراتيجي في السودان بدولتيه، وكذلك في منطقة شرق إفريقيا التي تمد المصريين بشريان حياتهم من المياه. فهل يمكن لنا، ولو مرة واحدة، أن نحسن استخدام الفرص المتاحة ونحول التحديات إلى إمكانات؟ أم يصبح ديدننا هو هدر الإمكانية والجري وراء الفرص الضائعة؟