default Author

النفط والفطور السامة .. هل ينعش انخفاض أسعار النفط الأخير الاقتصاد العالمي؟

|
أسعار النفط في حد ذاتها لا ترفع أو تخفض نمو الاقتصاد العالمي لأنها جزء من مجموعة من المتغيرات التي تحكم هذا النمو. وفي الوقت الذي يتساءل فيه البعض عما إذا كان الانخفاض الأخير في أسعار النفط سيسهم في مساعدة الاقتصاد العالمي على النمو، فإن السؤال يجب أن يكون: هل انخفضت أسعار النفط بشكل لا يؤثر سلبا في نمو الاقتصاد العالمي؟ وكل ما علينا هو أن نتصور التالي: هل انخفاض أسعار النفط بشكل كبير سينقذ اليونان أو إسبانيا أو البرتغال من ورطتها؟ وهل انخفاض أسعار النفط بشكل كبير سيخفض الديون الأمريكية ويلغي الخلاف الحالي بين الديمقراطيين والجمهوريين حول رفع سقف الدين العام؟ وهل انخفاض أسعار النفط سيسهم في تحسين وضع سوق العقارات في الولايات المتحدة؟ وهل انخفاض أسعار النفط سيرفع من قيمة الدولار الأمريكي؟ وهل انخفاض أسعار النفط من 120 دولارا إلى 100 دولار سيزيد من ثقة المستهلكين بالدول المستهلكة؟ وهل انخفاض أسعار النفط سيخفف من حدة التضخم في الصين أو دول الخليج؟ وهل انخفاض أسعار النفط سينهي المشكلات السياسية في كل من ليبيا ومصر واليمن وسورية؟ الجواب عن كل هذه الأسئلة واحد: لا. إن أثر ارتفاع أسعار النفط لا يتمثل فقط في إنفاق المستهلك جزءا إضافيا من دخله على البنزين، أو إنفاق الشركات مبالغ إضافية على عمليات النقل والمواصلات، التي كانت ستنفق على سلع وخدمات واستثمارات أخرى، إنما يمتد إلى أمور أكثر أهمية. إن الأثر الأكبر لارتفاع أسعار النفط في اقتصادات الدول المستهلكة لا يتمثل في نقص دخول المستهلكين، إنما في الصدمة التي تجبر الأفراد والشركات على تغيير سلوكهم، بما في ذلك تغيير خطوط الإنتاج. فهذا التغيير يعني انخفاض إنتاجية الأفراد من جهة، وتوقف أو تباطؤ خطوط الإنتاج في المصانع من جهة أخرى. فالكل يبحث في النهاية عن طريقة لتخفيض التكاليف. وعملية البحث هذه تعرقل الكفاءة التي تم الوصول إليها نتيجة التكرار والخبرات السابقة. وخلال عملية البحث عن حل، قد يتم الوصول إلى طريق مسدود، فيتوقف الإنتاج مؤقتا، وعملية العودة إلى ما كان الأمر عليه تتطلب بعض الوقت. باختصار، ارتفاع أسعار النفط يسبب هزة في الاقتصاد نتيجة قيام الجميع بالبحث عن طريقة للتخفيف من أثر هذه الهزة. فإذا كانت هناك سياسات ووسائل جاهزة تمنع حدوث الهزة أو تخفف منها، فإن الأثر السلبي لن يوجد، أو يكون ضعيفا. هذا يعني أن ما يؤثر في الاقتصاد بشكل كبير هي عملية الارتفاع الكبير نفسها، بغض النظر عن كمية الارتفاع. لهذا فإنه يكاد يكون من المستحيل الربط بين مقدار الارتفاع أسعار النفط والنمو الاقتصادي، لكن يمكن الربط بين عملية الارتفاع والنمو الاقتصادي. ولهذا فإنه من الخطأ اعتبار أن أثر ارتفاع أسعار النفط بمقدار 20 دولارا في نمو الاقتصاد العالمي، مثلا، يساوي أثر انخفاض الأسعار بالكمية نفسها، فالبيانات والتحليلات الإحصائية تشير إلى أن أثر ارتفاع أسعار النفط في اقتصادات الدول المستهلكة أكبر من أثر انخفاض الأسعار بالكمية ذاتها. لماذا؟ لأن ردة الفعل أثناء فترة الهلع أكبر منها في الحالات الأخرى. إن انخفاض أسعار النفط لا يعني بالضرورة نمو الاقتصاد العالمي، وذلك لأن أثر تغير أسعار النفط يعتمد على البيئة المحيطة، بطريقة مماثلة لنمو "الفطور" خاصة السامة منها. فالفطر ينمو ضمن ظروف خاصة: رطوبة شديدة، حرارة معينة، ضوء خافت أو معدوم. إذا استمرت الأمور على هذه الحال فإن تسمم التربة بهذه الفطريات سيؤدي إلى تعفن جذور الأشجار والورد المحيطة، فتموت. هذا المثال يوضح سبب ارتفاع أسعار النفط بأكثر من أربعة أضعاف بين عامي 2022 و2007 من دون التأثير سلبا في نمو الاقتصاد العالمي، حيث كان "النور" قويا في تلك الفترة، ويوضح كيف حصل الكساد في الماضي رغم أن أسعار النفط كانت منخفضة. ويوضح كيف أن 20 دولارا للبرميل قد يكون لها أثر سيئ في الدول المستهلكة في فترة ما، وكيف لا تؤثر 80 دولارا في الاقتصاد نفسه في فترة أخرى؟ فالفطور لا تنبت إذا قمنا بقص بعض أغصان الأشجار من الأعلى والسماح للنور بالوصول إلى الأرض التي تنمو فيها الفطور، أو إذا تم تجفيف المنطقة وتخفيف نسبة الرطوبة فيها. وهنا قد يقول البعض إن استخدام بعض المواد الطبيعية أو الكيماوية قد يقتل هذه الفطريات. هذا الكلام صحيح، لكنه حل مؤقت، لأن البيئة ما زالت مساعدة على نموها، وستعود في المستقبل القريب. لهذا فإن قيام وكالة الطاقة الدولية بالإعلان عن رغبتها في سحب 60 مليون برميل من الاحتياطي الاستراتيجي، ما هو إلى بمنزلة المادة الكيماوية لقتل هذه الفطور، إلا أنه حل مؤقت لأن البيئة مناسبة لعودة هذه الفطريات. لا يؤثر ارتفاع أسعار النفط في اقتصادات الدول المستهلكة إذا كان هناك "نور" يمنع نمو الفطريات، أو الآثار السلبية لارتفاع أسعار النفط مثل زيادة الإنفاق الحكومي وانخفاض أسعار الفائدة، وتخفيض الصرائب، وزيادة الإنتاجية، وزيادة الدخول، وزيادة معدلات الاستهلاك. أما إذا تم تخفيض الإنفاق الحكومي ورفع أسعار الفائدة ورفع الضرائب، فإنه من الطبيعي أن تنخفض الدخول ومعدلات استهلاك، وبالتالي فإن البيئة مظلمة ورطبة وستسهم في نمو الفطريات، وهو ما سنشهده خلال السنوات القليلة المقبلة. من هذا المنطلق فإن أسعار النفط الحالية، بعد انخفاضها، ما زالت مرتفعة، وجو الاقتصاد العالمي مظلم ورطب وحار، والفطور ستنمو وستسمم التربة وستقتل مزيدا من الأشجار والنباتات. ونتيجة لذلك فإن طلب هذه المناطق "المسمومة" على النفط سيستمر في الانخفاض، وإذا انتقلت العدوى إلى الأراضي الآسيوية، فإن الانخفاض في الطلب على النفط سيكون كبيرا لدرجة أن هذا السم سينتقل إلى الدول المنتجة للنفط. خلاصة الأمر أن أسعار النفط ما زالت مرتفعة رغم الانخفاض الأخير، وأن المستوى الحالي في الجو الحالي يجعل البيئة ملائمة لنمو الفطريات القاتلة. فإذا لم تنخفض أسعار النفط بشكل كبير لمنع هذه الفطريات من النمو، فإن هذه "الفطريات" ستجبر أسعار النفط على الهبوط، عاجلا أم آجلا. إن دول الخليج جزء لا يتجزأ من هذا العالم، وإذا انتشر وباء ما، فإن المنطقة ليست معزولة وليست لديها المناعة الكافية.
إنشرها