أوباما ونظرية الحدود الإسرائيلية (2)
أوضحنا في مقال الأسبوع الماضي أن الحدود الدولية لإسرائيل قد تحددت بموجب القرار الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947 والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وأن إسرائيل بعد تأسيسها أعلنت قبولها هذا القرار والتزامها به، وأن هذا الإعلان ملزم لها ولا يحق لها الرجوع عنه بموجب قواعد القانون الدولي. واستكمالاً لما سبق نشير إلى أن إسرائيل لم تحترم التزاماتها، إذ بعد فترة وجيزة من تأسيسها وانضمامها إلى عضوية الأمم المتحدة، صرح ديفيد بن جوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بأنه (ستنشأ في المستقبل ظروف، وعلينا أن نستغل هذه الظروف لتوسيع حدود الدولة، وإذا لم تنشأ هذه الظروف تلقائياً، فعلينا أن نصنعها بأنفسنا). وفعلاً طبقت إسرائيل هذه السياسة التوسعية على مراحل متعددة، وللدلالة على ذلك نشير في عجالة إلى أن حرب 1948 انتهت باحتلال إسرائيل أراضي لا تدخل ضمن حدودها المعينة بموجب قرار التقسيم. ووقعت دول المواجهة العربية (مصر، لبنان، الأردن، سورية) اتفاقات هدنة مع إسرائيل عام 1949، وبعد توقيع هذه الاتفاقيات استطاعت إسرائيل أن تحتل بعض مناطق الحدود التي قررت تلك الاتفاقيات أن تكون منزوعة السلاح وغير خاضعة لسيطرة أي ظرف. وكانت القوات الإسرائيلية تجتاز خطوط الهدنة في جميع الجبهات العربية وتتوغل في أراضي الدول العربية المجاورة تدمر المرافق العامة مثل محطات المياه وتقتل الجنود وترتكب مجازر بشعة ضد السكان العرب.
وأعلن رئيس وزراء إسرائيل ديفيد بن جوريون أمام الكنيست الإسرائيلي في 5/12/1949 أن (إسرائيل تعد قرار الأمم المتحدة الصادر في تشرين الثاني ''نوفمبر'' غير شرعي وغير موجود). وبهذا الإعلان نزعت إسرائيل (الشرعية الدولية) عن وجودها. وفي عام 1956 اشتركت إسرائيل مع بريطانيا وفرنسا في شن الحرب ضد مصر إثر إعلان الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، يرحمه الله، تأميم شركة قناة السويس. واحتلت إسرائيل قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية وأعلن ديفيد بن جوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إلغاء اتفاق الهدنة وضم قطاع غزة وسيناء إلى إسرائيل وتأكد بذلك الطابع الاستعماري التوسعي لإسرائيل. ثم اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب بعد أربعة شهور ونصف الشهر على الاحتلال تحت ضغط المقاومة المصرية والضغوط السياسية الدولية.
وبعد (11) عاماً من حرب 1956 تمكنت إسرائيل من احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء وهضبة الجولان السورية إثر الحرب العدوانية التي شنتها في 5/6/1967 ضد مصر وسورية والأردن. وبدأت بذلك حقبة جديدة من الصراع العربي - الصهيوني ترسخ فيها وجود إسرائيل، وتعاظم تفوقها العسكري على جميع الدول العربية بفضل الدعم الأمريكي العسكري والاقتصادي الضخم والمستمر، وتلاشت آمال تحرير فلسطين وأصبح الهدف العربي الرسمي محصوراً في إزالة آثار عدوان 1967، وفي عام 1982 غزت القوات الإسرائيلية لبنان بهدف طرد المقاومة الفلسطينية منه واحتلت جنوبه ثم اضطرت إلى الانسحاب منه في سنة 2000 تحت ضغط المقاومة اللبنانية. ومن المفارقات أنه في ظل الهزيمة النكراء قرر القادة العرب في مؤتمر الخرطوم عام 1967 أنه لا تفاوض ولا صلح ولا اعتراف بإسرائيل ولا تفريط بحقوق الشعب الفلسطيني، وبعد أن حقق العرب انتصاراً جزئياً في حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وقعت مصر معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1979، ثم اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل ووقعت معها اتفاق أوسلو عام 1993، ثم وقع الأردن معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1994، ثم اعتمد القادة العرب في مؤتمر بيروت سنة 2002 مبادرة تقوم على أساس اعتراف جميع الدول العربية بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها إذا انسحبت من جميع الأراضي العربية التي احتلتها سنة 1967، ولكن إسرائيل رفضت هذه المبادرة وأعلن قادتها لا عودة إلى حدود 1967، ولا انسحاب من القدس الشرقية ولا عودة للاجئين الفلسطينيين، ومما سبق يتضح أن اللاءات العربية تلاشت وحلت محلها لاءات إسرائيلية.
ثانياً: أما وقد انتهينا من الاستعراض السريع لبعض أبرز وقائع الصراع العربي الصهيوني فإنه تجدر الإشارة إلى أن ما يسمى بعملية السلام تقوم على أساس القرار الذي قبلته جميع الأطراف المعنية والصادر من مجلس الأمن الدولي رقم 242 لسنة 1967 الذي وضع القواعد الأساسية لتسوية النزاع العربي - الإسرائيلي، وقد أثار هذا القرار تفسيرات متناقضة، وقبل أن نشير إليها، أجد من الضروري أن أسرد الترجمة العربية للنص الإنجليزي الحرفي لهذا القرار والتي جاءت كما يلي:
(إن مجلس الأمن، إذ يعرب عن قلقه المستمر للوضع الخطر في الشرق الأوسط، وإذ يؤكد عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب، والحاجة إلى سلام عادل ودائم تستطيع كل دولة في المنطقة أن تعيش فيه بأمان، وإذ يؤكد كذلك أن الدول الأعضاء قد تعهدت بقبولها ميثاق الأمم المتحدة، الالتزام بالعمل وفقاً للمادة الثانية من الميثاق.
1- يؤكد أن تطبيق مبادئ الميثاق يقتضي إقرار سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، ويستوجب تطبيق المبدأين التاليين:
(أ) انسحاب القوات الإسرائيلية المسلحة من أراض احتلتها في النزاع الأخير.
(ب) إنهاء كل ادعاءات وحالات الحرب، واحترام سيادة كل دولة في المنطقة، وسلامة أراضيها، واستقلالها السياسي، وحقها في أن تعيش بسلام داخل حدود آمنة ومعترف بها حرة من أعمال القوة أو التهديد بها.
2- ويؤكد كذلك ضرورة:
(أ) ضمان حرية الملاحة في الممرات المائية الدولية في المنطقة.
(ب) تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين.
(ج) ضمان حرمة الأراضي والاستقلال السياسي لكل دولة في المنطقة عن طريق إجراءات، من بينها إقامة مناطق منزوعة السلاح.
3- يطلب إلى الأمين العام أن يعين ممثلاً خاصاً ليتوجه إلى الشرق الأوسط ليجري اتصالات بالدول المعنية للمساعدة في التوصل إلى اتفاق، والمساهمة في الجهود لتحقيق تسوية سلمية مقبولة وفقاً لأحكام هذا القرار ومبادئه.
4- يطلب إلى الأمين العام تقديم تقرير إلى مجلس الأمن عن عمل الممثل الخاص في أقرب وقت ممكن).
ثالثاً: فسرت إسرائيل هذا القرار بعد صدوره بأنه لا يلزمها بالانسحاب الشامل من جميع الأراضي العربية المحتلة في حرب حزيران (يونيو) 1967، وإنما يعني الانسحاب الجزئي فقط، معتمدة في ذلك على النص الإنجليزي للقرار الذي ذكر الانسحاب من أقاليم Territories بدون أن يسبق هذه الكلمة أداة التعريف The، وأن هذا القرار قد صيغ باللغة الإنجليزية، ومن ثم فإن النص الإنجليزي هو المعول عليه في التفسير، وقد فند العديد من فقهاء القانون الدولي خصوصاً الفقهاء العرب هذا الموقف الإسرائيلي مستندين في ذلك إلى أسانيد عديدة، لعل من أبرزها ما يلي:
1- ليس صحيحاً من الناحية اللغوية القول بأن النص الإنجليزي لا يعني إلا الانسحاب الجزئي فقط، لأن النص الإنجليزي للقرار يطلب الانسحاب من أراض حددها بوصف معين وهو أن تكون قد (احتلت في النزاع الأخير).
وبالتالي فهو يسري على أية أراض توفر فيها هذا الوصف، وأي استثناء لأراض محتلة من حكم الانسحاب هو استثناء لا يجيزه نص القرار بل يمنعه صراحة بتحريمه اكتساب الإقليم بالحرب.
2- إنه عندما يوجد غموض في إحدى النسخ الرسمية من قرار المنظمة الدولية فإن هذا الغموض يجب إزالته بالرجوع إلى النسخ الأخرى لذات القرار، والنصوص الفرنسية والإسبانية والروسية للقرار المذكور تؤكد بوضوح أن المقصود من الانسحاب هو الانسحاب الكامل من جميع الأراضي المحتلة في حرب سنة 1967.