جذوة حماس .. وقطرات عرق

في عام 1997 عمد جيري ماكفيرسون إلى محاولة حل اللغز الذي يلاحظه عديد من أولياء الأمور والمدربين والمربين، وهو: لماذا يتقدم بعض الطلاب والمتدربين في تعلم مهارة أو رياضة أو حرفة معينة بشكل سريع وواضح ويحققون تقدما ملحوظا أكثر من زملائهم؟ واختار لدراسته الشهيرة هذه الأطفال الذين يتلقون دروسا في الموسيقى. اختار بشكل عشوائي 157 طفلا وبدأ الدراسة معهم قبل أسابيع عدة قبل أن يبدؤوا بأي درس في الموسيقى، بل قبل أن يتعرفوا حتى على الآلة الموسيقية التي سيتدربون عليها. ثم تابع هؤلاء الأطفال عبر سنوات عدة من خلال مقابلات شخصية وتحليل نفسي دقيق وتصوير فيديو مستمر في أثناء التدريب وفي أثناء الحفلات الموسيقية حتى تخرج هؤلاء الأطفال من المدرسة، ولاحظ كل ما يحيط بالتدريبات والأداء والتقدم والعوامل النفسية والجسدية وتدخلات أولياء الأمور والمدربين، وقارن كل ذلك بتقدمهم في التعلم الموسيقي، وقارن النتيجة النهائية مع إتقانهم العزف وما وصلوا إليه.
لاحظ ماكفيرسون بوضوح أنه وبعد تسعة أشهر من التدريبات انقسم الطلاب إلى ثلاث مجموعات واضحة: مجموعة بدأت تبدع بشكل واضح وتتقدم في التدريب بشكل ملحوظ وأصبحوا موسيقيين محترفين متميزين، ومجموعة كانت متوسطة وعادية، ومجموعة لم تكن تتقدم إلا بصعوبة بالغة وتركت التدريب. ثم بدأ يحلل جميع العوامل التي جمعها حول هؤلاء الأطفال وحاول أن يحلل الفرق بين هذه المجموعات.
وبعد هذه الدراسة المضنية التي امتدت عشرات السنين تبين للباحث بوضوح أن أكثر عاملين أثّرا بشكل كبير في أن يكون الطفل في إحدى هذه المجموعات الثلاثة هما عاملان اثنان:
الأول رغبة الطفل ودافعه الداخلي، وقد تم قياس ذلك بعدد كبير من الاختبارات والتحليلات النفسية، ولكن من أبسطها وأوضحها كان السؤال البسيط المباشر الذي تم سؤاله للأطفال قبل أسبوع من بداية الدروس والتدريب وهو: كم تتوقع أن تستعمل هذه الآلة في المستقبل؟ بناء على إجابة الأطفال عن هذا السؤال أمكن تصنيف الأطفال إلى ثلاث مجموعات: أطفال قالوا: "سأستخدمها طول العمر"، وقالوا ذلك بمحبة واضحة ورغبة وحماس وتطلع، وقسم قالوا: "لا ندري سنرى"، وقسم كان واضحا أنهم مغصوبون على التدريب وقالوا: "ربما هذا العام فقط". وكانت المفاجأة أن جميع الأطفال الذين كانت لديهم الرغبة القوية في التدريب كانوا من المجموعة التي تقدمت بسرعة وأبدعت كثيرا، وجميع الأطفال الذين لم تكن لديهم أي رغبة أو حماس لم يتقدموا.
ولكن ماكفيرسون وجد أيضا عاملا آخر كان قويا جدا لا يقل قوة عن العامل الأول، وهو عدد ساعات التدريب في الأسبوع، حيث وجد بوضوح أن الأطفال الذين تدربوا أكثر كانوا أفضل. ولما درس الباحث أفضل عشرة طلاب أبدعوا في تعلم هذه الآلة وجد بشكل لا يجد مجالا للشك أنهم الأطفال الذين كانت لديهم الرغبة الأعلى وعدد ساعات التدريب الأطول، وكان هذا الفرق بينهم وبين الأطفال الآخرين يتجاوز 400 في المائة.
هذه الرغبة الحقيقة هي سر النجاح، وليس الموهبة أو الذكاء، أن يجد الإنسان لحياته هدفا يحبه بعمق، ومستعد لأن يبذل فيه بسخاء، هدف يتجدد نبعه من داخله، يوقد فيه حماسا يلهبه من الداخل للمزيد، مثل الإدمان الذي لا يشبع منه الإنسان. قلّ أن تجد ناجحا نجاحا باهرا ليس في داخله هذه الجذوة المتقدة من الحماس والقناعة بما يفعل، وقبل ذلك وبعده الحب العميق لمهنته أو مهارته أو هدفه. ولكن هل هذا يكفى، قطعا لا، لابد أن يتبع ذلك ببناء مدروس، يبنى إما على دراسة نظامية مضنية طويلة كما في حالة العلماء، أو ساعات طويلة ثقيلة في المختبرات تكتنفها إحباطات متعددة وصعوبات متتالية، أو ساعات متطاولة من التدريب والإعادة والتنافس والكر والفر، كما في الرياضة والمهن والحرف وهكذا.
وأسعد الناس هو الذي يجتمع في عمله وهدفه في الحياة رغبة عميقة، ومتعة كبيرة، وكذلك حاجة ماسة من الآخرين إلى هذا العمل أو المنتج، وتقدير من المجتمع وسوق العمل له. فكيف إذا أضيف لهاتين الصفتين احتساب صادق لما عند الله من الأجر والمثوبة وابتغاء ما عنده من الفضل العميم؟
إذن هي معادلة وأي معادلة: من غير تلك الجذوة المتقدة من الرغبة والحماس والحب لما يفعله الإنسان، ومن غير تلك الساعات الطويلة من العمل والتدريب والعرق والكدح لا تتوقع نجاحا باهرا في هذه الحياة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي