Author

خريطة طريق لعلاج البطالة .. قاعدة معلومات وربط بالنمو الاقتصادي

|
ما أصدره خادم الحرمين الشريفين - أمده الله بالصحة والعافية - من أوامر ملكية، أكبر دليل على اهتمام ولاة الأمر - حفظهم الله تعالى - بشباب هذا الوطن الغالي، وبالتحديد ما يتعلق بموضوع رسالتنا هذه، وهي الأوامر السامية التي صدرت أخيرا، والذي يختص الأول منها بصرف إعانة للباحثين عن العمل الذين لم تهيأ لهم فرص عمل مناسبة، والثاني الذي يقضي بتشكيل لجنة عليا مكونة من النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، وعضوية ثمانية من الوزراء، ونص الأمر السامي الكريم على أن للجنة الاستعانة بمن تراه من المختصين من الداخل والخارج؛ وذلك لدراسة موضوع البطالة بشكل عاجل والرفع بتوصيات اللجنة لوضع حلول عملية وسريعة للبطالة في القطاعين الحكومي والخاص. وفي هذا السياق، وبدوافع قوية من هذا التوجيه السامي الكريم، نطرح على اللجنة الموقرة ملخصا ومختصرا لطرح جديد للتعامل مع المشكلة، وهي مكونة من ثلاثة محاور أساسية تشكل إطارا عاما لاستراتيجية متكاملة جديدة لتقديم حلول عاجلة لمشكلة البطالة، التي هي من أولى مهام اللجنة العليا. ولن أكون متفائلا بنجاح الجهود الجديدة لتوطين الوظائف في تحقيق كل الأهداف التي يطمح إليها ولاة الأمر ومتخذو القرارات فيما يتعلق بمشكلات عنصر العمل الوطني إذا فقدنا أيا من هذه المحاور أو الأسس المهمة في المرحلة القادمة الجديدة. المحور الأول: قواعد المعلومات المتكاملة والموثقة لقوة العمل الوطنية يقول مثل أجنبي معروف ''لا تستطيع إدارة أو معالجة مشكلة ما بصحة ما لم تتمكن من قياسها بدقة''، ولا يزال هناك جدل كبير حول حجم البطالة في السوق السعودية، الذي يراوح بين إحصائيات رسمية سنوية ودراسات وتقديرات واجتهادات متشائمة وأخرى متفائلة، أما التفاصيل الأخرى المهمة عن البطالة أو الباحثين عن العمل أو قوة العمل - على سبيل المثال المكان أو السجل الوظيفي أو فترة البحث عن العمل أو غيرها.... - التي تخدم بشكل مباشر في اتخاذ القرار وفي درجة نجاحه أو فشله، فهي غير موجودة على الإطلاق. ولا تقتصر مشكلة المعلومات المتوافرة حاليا المتعلقة بالموارد البشرية الوطنية على النقص فقط، بل التضليل لمتخذي القرارات أو الخطأ الجوهري أحيانا، على سبيل المثال تشير جداول مصلحة الإحصاءات العامة إلى أن البطالة النسائية انخفضت عام 1429 مقارنة بعام 1428، وبهذا انخفض عدد العاطلات بمقدار 19198، والمصدر نفسه يقول إن عدد العاملات أيضا قد انخفض بعدد 10696، مع العلم أن مصدرا آخر، وهو وزارة التعليم العالي، يقول إن عدد المتخرجات الجدد في العام نفسه أكثر من 52 ألف متخرجة، وهذه الأعداد في الحقيقة لم تحتسب في قوة العمل النسائية، فأين ذهبت هذه النساء 19198 عاطلة، 10696 عاملة، 52000 متخرجة جديدة، وغيرها.. لتختفي من قوة العمل، وبالتالي تعطي أرقاما ونسبا مضللة عن البطالة. ويمكن تبرير - ولو جزئيا - فشل الجهود والمحاولات السابقة والكبيرة ولفترة طويلة للسعودة بعدم وجود معلومات دقيقة ومتكاملة عن قوة العمل وتوثيق السجل الوظيفي أو العملي، خاصة للعاطلين والعاطلات منهم، وعبرت وزارة العمل عن بعض نتائج أو أعراض هذه المشكلة على موقعها في الإنترنت ''ظاهرة قيام بعض أصحاب الأعمال بتسجيل أسماء مواطنين ضمن العاملين لديهم للتمويه بأنهم حققوا نسب السعودة المطلوبة''. المعلومات المتاحة من المشكلات الأخرى المضللة لمتخذي القرارات المتعلقة بالمعلومات الحالية المتوافرة عن الموارد البشرية الوطنية، أن مصلحة الإحصاء العامة تستبعد أكثر من ثلاثة ملايين من النساء من قوة العمل - أي خارج حسابات البطالة - بحجة أنهن ربات بيوت ولا يرغبن في العمل، أي أن أكثر من 80 في المائة من النساء السعوديات لا يرغبن في العمل خارج المنزل، حسب هذه الإحصائيات. ولقد توصلنا في دراسة سابقة (تقدير حجم البطالة بأكثر من مليوني عاطل) قبل سنتين لنتيجة عكسية، وهي أن أكثر من 80 في المائة من النساء السعوديات (في سن الشباب) يرغبن في العمل خارج المنزل، والمعلومة الجديدة التي تتفق وتؤيد هذه النتيجة هي تسجيل أكثر من مليونين في طلب تعويض البطالة حتى الآن والتسجيل ما زال مستمرا، ولن نستغرب المزيد من الأعداد أو أن تكون النسبة العظمى من النساء. خطوة أولى لذا نجزم أن الخطوة الأولى في خريطة الطريق العملية لتوطين الوظائف في السوق السعودية، يجب أن تبدأ أولا بإنشاء قواعد معلومات وطنية إلكترونية متكاملة وحصرية عن قوة العمل الوطنية وتحديد أسباب الخروج من هذه القوة (مثل التقاعد، الدراسة، الاستقالة، الرعاية الاجتماعية، أو غيرها)، وكذلك تحديد أسباب الدخول لقوة العمل الوطنية (العاملون والباحثون عن العمل)، ومعظم هذا التحديث والتوثيق يجب أن يفعل بطرق آلية إلكترونية (مثل عقود العمل الموثقة والموقعة من الطرفين أو انتقال نسخة إلكترونية من الشهادة والسجل الأكاديمي للطالب أو الطالبة المتخرجين من الجامعات إلى هذه القواعد.. وهكذا)، منها أيضا طرق أخرى تقليدية، وبهذا يتكون سجل تاريخي وظيفي موثق لكل مواطن داخل سن العمل سواء كان عاطلا أو عاملا، ومن المؤكد أن هذه القواعد المتكاملة ستكون أفضل وسيلة عادلة لتحديد من يستحق ومن لا يستحق تعويض البطالة - على سبيل المثال - كما أنها ستخدم جوانب أخرى مهمة جدا. علاقة قواعد معلومات الموارد البشرية الوطنية الإلكترونية بتعويض البطالة يجب التأكيد على أن هذه الفكرة ليست موجودة من قبل على أرض الواقع وليست مجرد موقع إلكتروني على الإنترنت لتسجيل الباحثين أو العاطلين عن العمل أو الراغبين في تعويض البطالة أو مجموعة أجهزة حواسيب آلية لجمع عرض وطلب العمل، وليست أيضا تجميعا تطوعيا أو اختياريا من قبل جزء من سوق العمل الكلي كما هو موجود فعليا في بعض الحالات لكثير من المحاولات الجادة (على سبيل المثال موقع وزارة العمل، موقع صندوق الموارد البشرية أو غيرها من الاجتهادات الأخرى). إن هذا المشروع المقترح لقواعد معلومات الموارد البشرية الوطنية يتكون - جزئيا - من قواعد معلومات موجودة لدى كثير من الوزارات أو المؤسسات الحكومية، مثل وزارة الخدمة المدنية والأحوال المدنية ومؤسسة التقاعد والتأمينات الاجتماعية والجامعات وغيرها. ونجزم أنه من الصعوبة أو التعقيد تنفيذ أي برنامج لتوطين الوظائف في السوق السعودية أو التعامل بشكل جيد أو تطبيق وتنفيذ أي فكرة بطريقة عادلة لها علاقة بعنصر العمل الوطني - مثل دفع تعويضات للعاطلين والعاطلات أو الباحثين والباحثات عن العمل - بغياب مثل هذه القواعد الوطنية المقترحة من دون مجاملات أو اجتهادات أو أخطاء أو تجاوزات. تقييم سياسة الإحلال والبدائل الاقتصادية سياسة الإحلال المتبعة حاليا ومنذ فترة طويلة في السعودة، خاصة فيما يتعلق بالقطاع الخاص، لم تنجح في القضاء على البطالة في السوق السعودية، وتفسر هذه الرؤية - التي تستند إلى أسس علمية اقتصادية من الصعب الدخول في تفاصيلها هنا - العقود الثلاثة الماضية، حيث إننا لم ننجح حتى الآن في ظل قوة الاقتصاد السعودي، رغم الجهود الكبيرة المبذولة من قبل الدولة، في القضاء تماما على البطالة، ومن المؤكد أنه توجد بدائل وسياسات أخرى لاستراتيجيات اقتصادية أكثر ملاءمة لظروف ومواصفات السوق السعودية وقد فُتحَ لها المجال، وقد آن الأوان لتطبيقها بتوقيت ومرسوم حاسم بتشكيل لجنة عليا لتقديم حلول بديلة وعاجلة لمشكلة البطالة. والصعوبة أو الاستحالة في نجاح سياسة الإحلال المتبعة حاليا، وبالتالي البرامج المبنية عليها، ناشئة عن عدم تحقيق الاستخدام الأمثل لعنصر العمل في السوق السعودية (مثل عشرة محال تموينات وعشرة حلاقين وعشر صيدليات وعشر مغاسل، وهكذا من سلسلة العشريات في معظم الأحياء السكنية والشوارع التجارية وخاصة المدن)، وهذا التشوه في الاقتصاد بالتأكيد يمثل إهدارا لعشرات المليارات من الريالات لعناصر الإنتاج المختلفة، التي منها على سبيل المثال المخزون السلعي، والأهم من ذلك كله على هذه الحال إهدار كبير لعنصر العمل، وهنا يكمن سر الفشل ولغز المشكلة وشفرة الحل في الوقت نفسه، هذا إضافة إلى أن سياسة واستراتيجية الإحلال والبرامج المبنية عليها لا تأخذ في الاعتبار عنصر أو جانب المستثمر أو المستهلك على الإطلاق، وهذا ما يفسر أيضا مقاومتها من قبل القطاع الخاص وصعوبة نجاحها خلال الثلاثين سنة الماضية. توقيت المرسوم الملكي لتكوين لجنة عليا لتقديم حلول عاجلة للبطالة إن صدور المرسوم الملكي الذي يقضي بتشكيل لجنة عليا برئاسة النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية وعضوية ثمانية من الوزراء لدراسة موضوع البطالة بشكل عاجل والرفع بتوصيات لوضع حلول عملية وسريعة للبطالة، يختصر النقاش أو الجدل في هذه الجزئية من الموضوع، ليؤكد أن كل ما مضى من جهود سابقة لم يحقق ما يريده ولاة الأمر - حفظهم الله - فيما يخص الموارد البشرية الوطنية، خاصة العاطلين والعاطلات منهم؛ لذا فقد حان الوقت لتطبيق استراتيجيات وبرامج بديلة مختلفة عن العقود الثلاثة الماضية، وهذا مضمون هذه الرسالة. إذن لماذا توجد بطالة كبيرة في السوق السعودية رغم قوة ومتانة الاقتصاد الوطني؟ ويمكن الإجابة عن هذا السؤال المحير - الذي يجعل مشكلة البطالة في السوق السعودية تختلف عن الاقتصادات الأخرى - إذا استطعنا أن نستنتج أن أهم وأكبر سبب في أن الاقتصاد السعودي القوي ونموه العالي لم يقم بدوره بمعالجة البطالة أو بتشغيل العاطلين - كما يحصل في اقتصادات الدول الأخرى، وخاصة المتقدمة منها، هو أن هناك فصلا أو عزلا واضحا وجوهريا بين الجانبين، أي أن الاقتصاد الوطني ونموه ليس مرتبطا (مقيدا) بعنصر العمل البشري الوطني وتنميته كما وكيفا. ولا يتسع المجال هنا للدخول في تفاصيل برامج وآليات عمل وتطبيق مثل هذه الاستراتيجية كمرحلة أولى (وهي الربط التدريجي بين عنصر الموارد البشرية الوطنية والاقتصاد الوطني ونموه). وهذا التحليل والنظرة المختلفة للمشكلة عن العقود الماضية سيقود بالتأكيد لتطبيق حلول واستراتيجيات وخطط وبرامج جديدة ومختلفة أيضا لتوطين الوظائف بهدف الوصول للحلول العاجلة للتعامل مع مشكلة البطالة في السوق السعودية، وهذه الحلول والبرامج الجديدة المقترحة لا تختلف فقط عما سبق من جهود خلال العقود الثلاثة الماضية، بل أيضا تختلف عن كثيرا من الاقتصادات العالمية الأخرى، وإن كانت لا تخرج عن الإطار العام للسياسات الاقتصادية المعروفة. آلية جديدة للتنفيذ والتطبيق لتحقيق الأهداف إن التحليل الجيد والتنظير الدقيق ووضع الخطط والاستراتيجيات والقرارات الصحيحة بناءً على ذلك ليست كافية في حد ذاتها مهما بلغت من الصحة والدقة ما لم تتبعها آليات جيدة ومتكاملة ومقبولة للتنفيذ والتطبيق والإشراف والمتابعة على أرض الواقع، وهنا نقصد في المحور الثالث أن تتولى هذه المهمة الكبيرة جهة اعتبارية مستقلة ماليا وإداريا لها كل الصلاحيات والإمكانات للتطبيق والتنفيذ، وبالتالي تحقيق الأهداف التي تعالج مشكلات الموارد البشرية الوطنية وسوق العمل، ومنها البطالة والتستر والسعودة الوهمية وغيرها. قد تكون هذه الجهة المستقلة هيئة حكومية تدار بأسلوب تجاري أو شركة تهدف إلى الربح تمتلك الدولة منها 51 في المائة مقابل الامتياز الممنوح لهذه الشركة، الذي يخولها ويفوضها الصلاحيات للعمل، وبهذا تحقق إيرادات عالية جدا نتيجة إعادة هيكلة بعض القطاعات لمعالجة بعض تشوهات سوق العمل - والناتج من إهدار عنصر العمل في السوق السعودية - بهدف خلق فرص عمل جديدة مجدية من الناحية الاقتصادية، فهذه الجهة التنفيذية إذن من جهة سترفع التكلفة للعمالة الوافدة بشكل مباشر وتقضي على كثير من الممارسات غير النظامية، ومن جهة أخرى تدعم التدريب والتوظيف أو تعويضات العاطلين، وبمعنى آخر مختصر ستتمكن من تطبيق وتنفيذ استراتيجيات وبرامج جديدة مثل ربط الاقتصاد الكلي ونموه بالموارد البشرية الوطنية ونموها. ورغبة في عدم التكرار فقد تطرقنا لهذه البرامج والاستراتيجيات بشيء من التفصيل، خاصة المحورين الأول والثاني، في مقالات ومحاضرات وندوات سابقة متوافر البعض منها على الإنترنت، أما المحور الثالث الذي هو الذراع التنفيذية في الاقتصاد الكلي - ذات الإمكانات والصلاحيات الكافية - فيما يتعلق بالتعامل مع مشكلات الموارد البشرية وما يترتب عليها من مشكلات مختلفة مثل البطالة والتستر والسعودة والوهمية والمتاجرة بالتأشيرات وغيرها.. فيحتاج في الحقيقة إلى مزيد من التوضيح، ولا سيما المسوغات الاقتصادية ومدى حاجة الدولة إلى التدخل في الاقتصاد لمعالجة تشوهات سوق العمل المتراكمة، وبهذا تقديم حلول دائمة مستمرة تأخذ في الاعتبار أيضا الأجيال القادمة.
إنشرها