العصفور النائم

يحكى في الأساطير الصينية أن الإمبراطور ضاق بكثرة أعباء الإمبراطورية وتزايد المهام والتحديات عليه في إمبراطوريته الكبيرة، فنادى على كبير وزرائه وقال له: أحتاج إلى لوحة فنية أعلقها في مكتبي كلما ضقت ذرعا بالعمل نظرت فيها فارتاحت نفسي وهدأت وتهيأت للعمل من جديد. ذهب الوزير ونادى أفضل الرسامين المحترفين وكلفهم بهذه المهمة العظيمة. وبعد بضعة أسابيع جاء الوزير للملك وقال: لقد جئت لك بثلاث لوحات من أبدع ما رسمته أنامل أفضل رسامي الصين وأريدك أن تطلع عليها وتختار منها ما يحقق غرضك.
كانت اللوحة الأولى لبحيرة هادئة تقبع في أحضان الجبال الشاهقة، تبدو المياه في منتهى الروعة وانعكاس ضوء القمر يضفى على النفس هدوءا عجيبا. صاح الإمبراطور: رائعة. ثم نظر إلى اللوحة الثانية فإذا هي لأكوام من الجليد تكونت بعد هطول غزير للثلوج، كل ألوان اللوحة تبعث على الراحة والاسترخاء وينبض بهدوء عجيب. صاح الإمبراطور: رائعة. ثم نظر الملك إلى اللوحة الثالثة وكانت عبارة عن شلال ماء قوي يهبط من مسافة عالية جدا وتتناثر حبات الرذاذ منه يمنة ويسرة ثم تنهمر في مشهد بديع يشع قوة وتحديا ورهبة. هنا هب الوزير بسرعة وقال: أعتذر إليك يا أيها الإمبراطور، يبدو أن الفنان الثالث على الرغم من احترافيته وبراعته لم يفهم ما أردت بالضبط، فهذه اللوحة لا تساعد على الاسترخاء أبدا ولا تبث في النفس طمأنينة مطلقا، سأطلب منه أن يرسم لوحة أخرى فورا. قال الإمبراطور: أيها الوزير أنظر إلى هذه اللوحة جيدا، الشلال المهيب الضاج ليس كل ما في هذه اللوحة. نظر الوزير إلى اللوحة مرة أخرى بتمعن فإذا به يجد في طرف الصورة بجوار هذا الشلال الهادر عش عصفور صغير وبداخله عصفور نائم ملء عينيه! قال الإمبراطور: كيف استطاع هذا العصفور أن يتجاهل كل ما حوله من الضوضاء والقلق وينام ملء عينيه؟ لا بد أن لديه قوة داخلية كبيرة تساعده على ذلك. أريد هذه الصورة يا وزير.
قصة بسيطة ولكن معبرة بعمق وهي من مرويات ثقافة "التاو" الصينية العريقة.
الصورة الأولى تمثل الهدوء والراحة والاسترخاء السطحي، حيث إن داخل هذه البحيرة الهادئة توجد تيارات مائية وتغيرات كثيرة ومتنوعة. ثم إن هذه البحيرة تنام في أحضان الجبل فليس هناك ما يزعجها أو يؤرقها. وهكذا الناس كثير منهم يظهر أنه مرتاح وراض وقانع، ولكنه في الحقيقة قانع بما لم يسع له وراض بالقليل والتافه الذي ليس له قيمة حقيقية. ثم هو في الحقيقة مرتاح في خارجه، ولكن في داخله قلق وأرق وتطلع لما عند الآخرين. فالصورة إذن تمثل الاسترخاء والراحة غير المستحقة التي تتمثل في الظاهر دون الباطن.
الصورة الثانية وهي صورة الجليد المتراكم تمثل الراحة والرضا الوقتي الذي لا يلبث أن يزول، فالجليد يذوب بعد حين وتظهر من تحته الصخور المزعجة. يتمثل الرضا والاسترخاء الوقتي في نزهة بحرية أو فسحة مسائية أو مشاهدة فيلم أو غير ذلك من الأنشطة. هذه الأنشطة وأمثالها تجلب الاسترخاء الوقتي، ولكن ما يلبث أن ينقشع أثرها ويعود الإنسان إلى التوتر والقلق مرة أخرى.
أما في الصورة الثالثة فالأمر مختلف تماما، الصورة لا تتحدث عن مظاهر خارجية للطمأنينة والراحة والاسترخاء، إنها تتحدث عن رضا داخلي وقناعة من الأعماق استطاعت أن تقاوم المثيرات الخارجية والضغوط المتعددة. إنها ليست سكون المحيط الخارجي ولكن طمأنينة القلب. هو رضا داخلي لا يتأثر كثيرا بما حوله، يستطيع أن يصنع له عالما خاصا يتحدى فيه أعتي الظروف. هذا النوع من الطمأنينة والراحة مؤهل لأن يستمر بخلاف النوعين السابقين.
في المرة المقبلة التي يعكر فيها صفو حياتك أحد أو تضطرب الدنيا من حولك أو تتقاذفك الأعاصير يمنة ويسرة، أنت لست مضطرا دائما لأن تهرب إلى منتجع سياحي بعيد عن الضوضاء أو أن تغير المكان والزمان بشكل كامل أو أن تهرب من الوسط الذي أنت فيه (وإن كان كل ذلك يساعد حتما على الاسترخاء والهدوء)، عليك أولا أن تفتش عن الهدوء في داخلك، وتستل معاني الطمأنينة من قلبك، فتنام وديعا كما ذلك الطير الصغير مهما أحاطت بك الخطوب، وما أصعب ذلك!
الطمأنينة والراحة الحقيقية تنبع دائما من الداخل وليس من الخارج ومصدرها دائما هو الإيمان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي