الجرح والتنمية والفساد

تخيل لو أن جرحا أصابك في بدنك بشكل بليغ فذهبت مسرعاً إلى القصاب في المجزرة بدلا من أن تذهب إلى الجراح في المستشفى ظنا منك أن العلاج سيكون متوافرا لديه، إذ إن المسألة فيها بعض الشبه وما إن وصلت إليه حتى عرضت عليه مشكلتك وأقنعته بأن الحل لديه أو أن القصاب قد وضع في لوحة إعلانه جملة توهم بأنه يعالج الجروح، فهل يلام القصاب سواء أخطأ أم أصاب أم الطبيب الجراح أم يلام المجروح؟
إن البناء الذي ننشده ونتطلع إليه أن يكون على أسس صحيحة ودون أن يكون بني على فساد هو الذي من أجله تعقد الندوات والمؤتمرات لتؤكد أهمية التخطيط والتصميم والإدارة في بناء المشروعات وهي التي تمثل البناء المادي للحضارة، دون أن نغفل الإنسان الذي تبنى له مشروعات متعددة من تعليم وتأهيل وتدريب وغير ذلك، وهكذا الأمم حينما تبنى حضارتها فإنها تعمد إلى بناء الإنسان أولا ثم بعد ذلك البناء المادي المتقن مما يخلد ذكرها بين الأمم.
إن معظم المشاكل في المشروعات تلك الجروح التي ينشأ منها فساد، هي نتاج ما ذكر من أننا في حال علاجنا لها نذهب إلى غير متخصص لعلاجها أو أننا لم نقم بمعالجتها بطرق سليمة وصحيحة وحين يكون العلاج لمشكلة ما بشكل غير متقن وصحيح فإن تلك المشكلة سوف تنفر بعد حين، كما هو الجرح إذا لم يعالج بشكله الصحيح، واليابانيون يقولون (افعلها بشكل صحيح، افعلها مرة واحدة)، لكننا في الحقيقة نغفل ذلك الجانب في كل أمورنا ولا نفعلها بشكل صحيح ولذلك نفعلها أكثر من مرة وهو ما يتم في كثير من مشروعات البنى التحتية كالطرق فيتم حفر وردم الشارع أكثر من مرة وحال إعادة السفلتة تتم بطريقة سيئة وتجد أن أكثرها وبعد أن تعالج تنفر مرات ومرات فغالبا ما تكون المعالجة خاطئة وتكون النتيجة تكرار إعادتها دون أن ندرك أن العلاج هو أن نفعلها بشكل صحيح ولمرة واحدة فقط.
إن التخطيط الذي يعد إحدى أهم المراحل في البناء هو الذي دائما ما نجهل أهمية ولذا لا يعطى المدة الكافية لإعداد ما يلزم من مخرجات توضح الطرق المثلى للعمل والمنهج الذي يتبع في العلاج لكل مشكلة بل دائما ما ينظر إليه على أنه وقت زائد على المشروع لذلك يسبب هذا الإجراء المزيد من المشاكل وصنوفا من الجراح فمثلا حينما ننظر إلى التخطيط الحضري للمدن، وأن ذلك يتطلب دراسات مستفيضة ومخططات متعددة فإننا ننظر إلى أن من يعد تلك المخططات هي مكاتب غير جديرة بهذا العمل مطلقا ولذا تطمر أودية دونما ردم بشكل هندسي صحيح ولا توضع الحلول للممرات المائية لتلافي أي أخطار لها وتعظم المشكلة في أننا حال البناء نتجاهل أيضا عمل أي اختبار للتربة لنحصد النتيجة التي قد تفاجئ البعض.
لكن الحقيقة هي القانون الذي لا يمكن تبديله في هذه الحياة، وهو قانون الحاسب الآلي اليوم Garbage In Garbage Out بمعنى أن المدخلات الخاطئة سوف تخرج لك مخرجات خاطئة أيضا وهو قانون السبب والنتيجة، فحينما تزرع بصلا سوف يخرج لك بصل ولن يفكر البصل في أنك تريد طماطم، ولذلك حينما تزرع مشكلات وتطمرها فإنها سوف تنبت لك بعد حين مشكلات ويكون البناء قد تم على فساد وسوف تطمر المياه كل مخطط لا يحترم مجرى السيل ولا يعالج تلك المشكلات من خلال أسس هندسية صحيحة، وكما يقول الحكيم: إذا كان البناء على غير قواعد كان الفساد إليه أقرب من الصلاح وهو ما يؤكده قول المتنبي:
فإن الجرح ينفر بعد حين إذا كان البناء على فساد
وتتعاظم المصيبة إذا كانت هناك أطراف أخرى تستفيد من تلك الجراح بل تتلذذ بها وتعمل على إطالة جراحها مما تتعطل معها عجلة التنمية إذ إن خطط التنمية هي مشاريع بناء وإذا كان في كل مشروع جرح نازف ويعالج كي ينفر بعد حين فإننا في الحقيقة نتطلع إلى أن تقوم هيئة مكافحة الفساد بدورها المنشود في وقف ذلك النزيف ومعالجة كل الجراح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي