النقل الجوي الداخلي.. إلى أين ؟

يكاد يتفق الجميع على أن خدمات النقل الجوي الداخلي في بلادنا وصلت إلى مستوى حرج سيتسبب في تعطيل وإبطاء حركة النشاط الاقتصادي والاجتماعي. وقد أصبح هذا التدهور الصارخ حقيقة مشاهدة لا يجحدها أحد بمن فيهم القائمون على تقديم هذه الخدمة من مسؤولي ''الخطوط السعودية''. فقد بلغ مستوى تدني الخدمة حدا ضجت منه الحناجر وانبرت له أقلام بالنقد العنيف واشتكى منه الرأي العام وتناولته وسائل الإعلام وانتقده أعضاء مجلس الشورى انتقادا شديدا، ما دفع قيادات الخطوط السعودية أخيرا لاستضافة وفد من مجلس الشورى يتقدمهم رئيسه لزيارة المؤسسة. ولم أجد فيما صرح به المهندس الملحم أثناء تلك الزيارة سوى تكرار للأعذار التقليدية والوعود الوردية وإعادة استعراض لإحصاءات دعائية تقارن المنجز بما كان عليه الحال في الماضي، وليس بالفرص الضائعة أو بما كان يمكن أن تكون عليه الإنجازات لو كان تخطيط القائمين على إدارة هذه الخدمة وتقديرهم لإرهاصات المستقبل سليما وصحيحا.
ويبدو أن التدهور الذي بلغته هذه الخدمة في بلادنا يحتم علينا التذكير ببداهة الأهمية الحاسمة لدور النقل في الحياة المعاصرة، وبالتطور الكبير الذي جرى لقطاع النقل الجوي بالذات. فمنذ بداية الربع الأخير من القرن الـ 20 جرت تغيرات كبيرة في المفاهيم والنظم الاقتصادية والإدارية والسياسية المتعلقة بصناعة النقل الجوي لتواكب تطور حركة النقل الجوي في جميع أنحاء العالم، ما دفع الشركات الصانعة للطائرات لإنتاج الطائرات العريضة والكبيرة وتطوير محركات تقتصد أكثر في استخدام الوقود. وإني أذكر أن مجلة ''النيوزويك'' Newsweek جعلت موضوع نمو حركة السفر الجوي قصة غلافها في عام 1979. ومن ذاك أصبح النقل الجوي وسيلة نقل مهمة لتوسيع الأسواق واستغلال الموارد البشرية والمادية من أجل زيادة الإنتاج وتحسين نوعيته عن طريق المساهمة في تسهيل انتقال البضائع والعمالة إلى الأماكن التي تكون فيها أكثر نفعاً وتأثيراً في العملية الإنتاجية لتحقيق الاستثمار الأفضل لهذه الطاقات البشرية. ولم يعد الطيران واسطة النقل بين القارات والبلدان فحسب بل غدا أحد أهم وسائل النقل حتى بين المدن في البلد الواحد.
وقد أضحى نمو حركة الحياة في يوم الناس يتطلب وجود نظام سهل وكفء ومتطور لوسائل النقل بما فيها النقل الجوي، باعتبار أن تخلف قطاع النقل ستترتب عليه اختناقات ونتائج سلبية على النشاط الإنتاجي برمته وعلى حركة انتقال الناس والبضائع في أوقاتها المناسبة، فضلا عن فوات فرص استثمارية وتوظيفية متحققة. إن الجهود التي تبذلها مختلف المنشآت الصناعية والخدمية والزراعية في التوسع والنمو والعمل على تحقيق التشغيل الأمثل بغرض تخفيض تكلفة الإنتاج للوحدة الواحدة ستصاب بانتكاسة خطيرة إذا لم تجاريها جهود صادقة ومتطورة من جانب قطاع النقل. ولذا فإن أي قصور يحصل في قطاع النقل سيؤثر في عملية التدفق السلعي والإنتاجي ما بين المراكز الإنتاجية والاستهلاكية ويعطل مجمل الجهود التنموية. لقد كان قطاع النقل والمواصلات على مر التاريخ قطاعا محوريا حاسما في تطور المجتمعات ليس فقط من الناحية الاقتصادية بل حتى اجتماعيا، فهو يؤثر بشكل مباشر وغير مباشر في الحياة الاجتماعية للأفراد من خلال تيسيره لعمليات اتصالهم وتغيير سلوكهم الاجتماعي والحضاري.
ومن يراجع الخطط الخمسية الوطنية يلاحظ أن هناك زيادة مطردة في مجال التنمية الحضرية شجعت على سرعة النزوح السكاني من الهجر والقرى إلى المدن والمناطق الحضرية ما أدى إلى حدوث تباين في مستويات التنمية الإقليمية بين محافظات المملكة نتيجة للموارد المتنوعة التي تتمتع بها وطريقة تطور الخدمات فيها، وقد كان لوسائل النقل المختلفة والنقل الجوي خصوصا دورا مهما في تقدم وتطور تلك الخدمات.
وعليه فإنه بالنظر لكون مشاكل الخطوط السعودية متجذرة ومعقدة، وجهود إصلاحها غدت عصية وستأخذ في الغالب وقتا طويلا حتى تؤتي ثمارها، فإنه ليس هناك من سبيل لفك هذه الاختناقات الشديدة سوى العمل على سرعة تحرير سوق هذه الخدمة وفتح باب المنافسة على مصراعيه أمام مزيد من الشركات المحلية ومعاملتها بطريقة متساوية. بل ربما كان الأهم هو السماح أيضا للشركات الأجنبية بالعمل في مجال النقل الداخلي ولو بشكل مؤقت واستثنائي من أجل استعادة التوازن بين العرض والطلب في السوق ريثما تتمكن الخطوط السعودية من حل مشاكلها. وللحديث صلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي