مأزق الثورة والوطن في ليبيا
الموقف الراهن في ليبيا يشكل ورطة حقيقية، فلا يزال القذافي ينزل الخسائر ويزهق الأرواح ضد شعبه، مقابل ذلك يتعرض الثوار لنكسات، كما يتعرض المدنيون للمجازر. الموقف الآن صراع بقاء لشعب تجاوز مع حاكمه حدود المطالب الإصلاحية. في صراع البقاء يتم تجاوز الكثير من الخطوط التي يلتزم بها الجميع في الظروف العادية. فالثوار طالبوا بحماية المدنيين، فأسرع "الناتو" بالتدخل، لكن الحماية لم تتوافر ولا يزال القذافي يهاجم المدن ويقتل العشرات يومياً، فعاود الثوار المطالبة بالحماية الفاعلة، فانقسم الحلفاء ثم عادت واشنطن إلى خط التدخل، ودخل الحلفاء في نقاش طويل لا تحتمله خطورة الموقف على الأرض، فاستحث الثوار أي عمل لتحقيق المهمة وتلكأ التحالف حتى ارتفعت قائمة الضحايا. ثم راوغ التحالف بعد أن حصل على صك عربي بالتدخل كان موجهاً أصلاً إلى مجلس الأمن وفي حدود منطقة حظر الطيران. واختلف موقف التحالف من ملف الأزمة من لحظة إلى أخرى، خصوصاً فيما يتعلق بمصير القذافي بين رحيله أو التفاوض معه، بل تشعبت المواقف الغربية وتوزعت الأدوار. وظل شبح العمليات الأرضية المتصورة منذ اللحظة الأولى يخيم على المشهد، لكن التدخل يعني في النهاية احتلال ليبيا من وجهة نظر الثوار، كما يعني تورطاً عسكرياً من وجهة نظر الحلفاء. لكن الحلفاء يريدون أن تشتد الأزمة ويسقط المزيد من الضحايا حتى يكون التدخل بطلب صريح من الثوار، حتى يبدو التدخل وكأنه عمل إنساني نبيل يضيف به الغرب الجديد من أفضاله إلى العرب. عند كتابة هذه السطور، لا يمانع الثوار من أي إجراء لإنقاذ الشعب الليبي من حاكمه الباطش الذي يعرف كيف يلاعب الغرب وفهم أبعاد لعبته، فأصبح الثوار كالأيتام على مآدب اللئام: القذافي الذي يرفض التنحي ويخشى المحاكمة وهو مسكوت عنه من جانب الحلفاء لأسباب مفهومة، والغرب الذي يريد أن يكون تدخله البري واحتلاله ليبيا بطلب من قيادتها الشرعية الجديدة التي اكتسبت الشرعية سريعا، من جانب فرنسا وبعض الدول الأخرى التي أعلنت سقوط شرعية القذافي واعترفت بشرعية المجلس الوطني الانتقالي. وورد في تصريحات رئيس المجلس خلال زيارته باريس يوم 19/4 أنه يود أن يرى إنقاذا من العالمين العربي والإسلامي، وكأنه يرى تماماً مصير التدخل البري، لكنه في ظروف ليبيا الخانقة، يريد إنقاذا من أي جهة. معنى ذلك أن القذافي يصر على بقاء نظامه، كما يصر على أن ما حدث مؤامرة ضده، فأصبح هو الوطني المعارض للتدخل الأجنبي. وعلى الجانب الآخر، يتساقط الضحايا والجرحى ولا يجدون العون والعلاج والحماية. في هذا المناخ القاتل هم مخيرون بين مزيد من القتل وربما تراجع عزائمهم وموقف القذافي، وبين احتلال ليبيا مع حمايتهم من القذافي. فالخيار يدور بين الفناء المؤكد، والخطر المحتمل من جانب التحالف، وكلما مر الوقت، سقطت تحفظات القرار أمام احتمالات الاحتلال الأجنبي، فهم في النهاية يستبدلون احتلالا وطنيا مقيتاً باحتلال أجنبي قد يرحل يوماً، كما أن إصرار الاحتلال الوطني على البقاء شل يد المنطقة عن المساندة، كما مزق الساحة الوطنية بين مؤيد للحاكم ومعارض له. الزمن ــ مع الأسف ــ عنصر حاسم في المعادلة .. فمن لديه حل ينقذ الوطن والليبيين في وقت واحد قبل فوات الأوان؟