من مداخل الفساد .. ثغرة «الأقرباء»
أحسب أن أي مراقب منصف سيشيد حتما بالتطوير التقني والتنظيمي المتواصل في السوق المالية في المملكة، الذي شرعت فيه منذ صدور نظامها قبل نحو سبع سنوات. إذ أسهم ذلك النظام في ضبط وتجريم الكثير من الاختراقات والممارسات غير السليمة في عمليات البيع والشراء وجمع الأموال.
وكنت قد أشرت في مقالين سابقين في ''الاقتصادية'' بتاريخ 8/8/1424هـ، و1/9/1426هـ إلى أن مشروع النظام عند دراسته في مجلس الشورى تم إخضاع مواده لمراجعة متأنية كي تكون المحصلة النهائية رقابة محكمة وتنظيما جيدا يوفر معايير من الشفافية لا تقل عما هو معمول به في الأسواق المالية الأخرى، ولا سيما فيما يخص الإفصاح الكامل عن تعامل الأشخاص المطلعين وكبار المساهمين مع الالتزام بمتطلبات الفحص والقياس التي تخضع لها تلك الأسواق. وفي سبيل ذلك كان لزاما توخي الدقة في ضبط المصطلحات والتعاريف التي وردت في النظام لما لذلك من تبعات نظامية واستحقاقات قانونية.
من بين تلك التعاريف التي استأثرت بوقت طويل من النقاش في لجنة الشؤون المالية في المجلس كان تعريف ''الأقرباء'' في مشروع النظام الذي قدمته مؤسسة النقد العربي السعودي، إذ لم يتقبل البعض من أعضاء اللجنة ذلك التعريف الذي نص على أن الأقرباء هم الزوج والزوجة والأولاد، ورأى أولئك الأعضاء ضرورة إضافة كلمة ''القُصّر'' إلى الأولاد بحيث يصبح تعريف الأقرباء هم ''الزوج والزوجة والأولاد القُصّر''. وكانت الحجة التي سيقت لتبرير تلك الإضافة أنه لا يمكن من الناحية العملية السيطرة على تصرفات الأولاد الراشدين من بيع وشراء للأسهم أو الأوراق المالية الأخرى، لما يتمتعون به من أهلية وذمة مالية مستقلة وفقا للنظام.
وقد دار جدل طويل حول تلك الجزئية الدقيقة، وإن كانت في ظاهرها تبدو غير ذات قيمة، لما لها من تبعات قانونية مهمة في منظومة السوق المالية، ولا سيما في مجتمعنا الذي يتميز بروابط عائلية متينة قد تطغى في بعض الأحيان على متطلبات ومعايير السلوك المهني. وكان الفيصل في ذلك الجدل هو السياق الذي اُستخدمت فيه كلمة ''أقرباء'' في صلب النظام، حيث نصت المادة الثامنة على التالي:
(يجب على كل من يصبح موظفا لدى الهيئة ''هيئة السوق المالية'' أو وكيلا عنها، أو عضوا في مجلسها، أن يفصح للهيئة فور تسلمه مهامه بالكيفية المحددة في لوائح الهيئة، عن الأوراق المالية التي يملكها أو الواقعة تحت تصرفه، أو تحت تصرف أحد أقربائه، وعن أي تغيير يطرأ بعد ذلك عليها خلال ثلاثة أيام من تاريخ علمه بالتغيير).
بمعنى آخر أن النظام لا يضع قيدا على أقرباء موظفي هيئة السوق من أزواج وأولاد فيما يختص بقراراتهم من بيع وشراء للأسهم أو الأوراق المالية الأخرى، إنما يتطلب فقط إفصاحا عن تلك القرارات في وقتها تعزيزا لمبدأ الشفافية وحماية لموظفي الهيئة من جانب والمتعاملين في السوق من جانب آخر بما في ذلك الأقرباء أنفسهم. ومن ثم فإن إضافة كلمة القُصّر لاستبعاد الأولاد الراشدين من حكم هذه المادة لا مبرر له وليس له سند ولا يستقيم مع مقاصد النظام. إذ كيف للقاصر، إن كان هو المقصود في النظام، الإفصاح عما تحت تصرفه وهو أصلا لا تصرف له؟ ثم إذا كان استبعاد الأولاد الراشدين من دائرة الأقرباء في أحكام هذا النظام بحجة أن لهم ذمة مالية مستقلة فما بالك بالاستقلالية المالية التي يتمتع بها كل من الأقرباء الآخرين وهما الزوج والزوجة في الإسلام؟
وقد ذكرت في المقالين السابقين المشار إليهما آنفا أن مجلس الشورى، بعد نقاش طويل في لجنة الشؤون المالية، أقر التعريف الذي ورد من مؤسسة النقد العربي السعودي للأقرباء بأنهم ''الزوج والزوجة والأولاد'' (بدون كلمة القُصّر) وهو تعريف ينسجم مع ما هو معمول به في الأسواق العالمية، وأدرج المجلس ذلك التعريف في المادة الأولى من النظام الذي تم رفعه للمقام السامي. غير أن النص الذي نشر في جريدة ''أم القرى'' أضيفت إليه، من قبل جهة ما، في تعريف الأقرباء كلمة ''القُصّر'' ما أحدث خلخلة في واحد من أهم أركان النظام وفتح ثغرة في السوق المالية للاختراقات والممارسات غير العادلة تجعل سلطات السوق عاجزة عن ضبطها وتجريمها.
وعلى الرغم من تكرار طلب سد تلك الثغرة بحذف كلمة ''القُصّر'' من تعريف ''الأقرباء'' الواردة في المادة الأولى من النظام حماية للمصلحة العامة، لم تستجب هيئة السوق حتى الآن. ذلك الموقف من قبل الهيئة ربما يكون مبنيا على توجس من أن أي تعديل في النظام بالإضافة أو الحذف، ولو كلمة واحدة، سيتطلب موافقة مجلس الشورى ما قد يفتح الباب على مصراعيه لمناقشة النظام برمته، وهو ما يشكل خطوة نتائجها غير مضمونة.
لكن المفارقة الجميلة هنا، والتي قد يغفل عنها البعض، أن حذف كلمة ''القُصّر'' في تعريف الأولاد الواردة في النص الحالي للنظام لا يتطلب عرض النظام على مجلس الشورى مرة أخرى، إذ إن النص الذي أقره المجلس لذلك النظام أصلا لم ترد فيه تلك الكلمة. بل قد ترى هيئة الخبراء وهيئة السوق المالية أن بقاء تلك الكلمة المضافة في النص (وليس حذفها) يشكل سببا واجبا لإعادة عرض النظام على المجلس.
في كل الأحوال ومهما كانت رؤية هيئة السوق للموضوع، فإننا نتطلع إلى مبادرة من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لسد تلك الثغرة في النظام ضمن جهودها الإصلاحية التي يعول عليه المجتمع الكثير من الآمال.